محمد الأشهب


لم يؤرق قائد الاستخبارات العسكرية الليبية السابق عبد الله السنوسي شيء أكثر من رغبته في إلغاء أو استئناف الحكم الصادر بسجنه المؤبد عن محكمة فرنسية بعد إدانته بالضلوع في إسقاط طائرة مدنية. غير أن العقيد الراحل معمر القذافي كان يروقه أن الرجل مدان، ولا يستطيع أن يتخلص من حكم قضائي يقتفي أثره أينما حل وارتحل.

تلك طريقة دفعت السنوسي لأن يفعل أي شيء من أجل إرضاء القذافي. فالعلاقة بين الرجلين كانت تزيد عن مجرد الانضباط نحو تبعية تحكمية لا ينفلت فيها الظل عن صاحبه.

خاض القذافي نزعته في تصفية معارضيه عن طريق إطلاق يد السنوسي في خنق الأنفاس وجز الأعناق. وكان يجد متعة في إذكاء الصراعات بين رموز الاستخبارات العسكرية والخارجية وعبر الدائرة الضيقة للمحيطين به. فقد كان مهووساً النفاذ إلى الحياة الشخصية للموالين له أحياناً من أجل التسلية وأحياناً للامعان في الإهانة.

كان السنوسي بارعاً في اصطياد هفوات الآخرين، بل وفبركتها حين يعوزه الدليل، فهو لا يستطيع التقرب أكثر من العقيد إلا عبر دهس الجثامين واختراع القصص المثيرة التي تغري laquo;الزعيمraquo; بالإنصات إلى فصول المكائد التي تدار خلف الستار.

القذافي والسنوسي لم يكن أحدهما يجهل الآخر. فالتوأمة تأتي من رحم الاستبداد المشترك. وفي تفاصيل من كتاب الواقع أن الجنرال المغربي محمد أوفقير عندما كانت تعوزه القدرة على إبراز الحاجة إلى خدماته laquo;الأمنيةraquo; كان يستخرج من رفوف تاريخه الأسود سيناريوات عن تعرض الملك الراحل الحسن الثاني إلى محاولة للإطاحة بنظامه. فثمة مدرسة أمنية لا تزدهر إلا عبر إشاعة أجواء التوجس والخوف.

وربما الفارق بين اوفقير والسنوسي أن الأول تورط في محاولة انقلابية فاشلة من أجل الالتفاف على ضلوعه في القضية. فيما السنوسي ظل laquo;وفياًraquo; لنفسه وسيده على طريقه أخلاقيات رجال المافيا، إذ يسفح الدم أنهاراً من أجل الدم وليس غيره.

كما كان القذافي مدركاً أن من دونه لا تنبت الأنياب لرجل استخباراته المفضل، فإن السنوسي بدوره كان يعرف أن نحر معارضي القذافي في الداخل والخارج هو القربان الذي يتقرب به إلى عقل الرجل الذي استخدمه في الإجهاز على كافة مقومات الدولة. ولم يكن أحدهما يخلّص الآخر من حرجه إلا بالقدر الذي تنغمس فيه الأيدي في مستنقع الدم.

يصبح الحاكم أسير استخباراته حين لا يعرف، ويصبح حاميها حين يعرف أكثر، ولا يكلف نفسه عناء التدقيق في ما يرد إليه من معلومات وتقارير. لكنه يصبح جزءاً منها حين يحتسب الولاء بأعداد القتلى والضحايا والمعتقلين.

هنا تحديداً لم يكن القذافي يفرق بين رجل الدولة ورجل استخبارات لا يجيد غير النميمة والقتل. ومشكلة القذافي واستخباراته أنهما كانا يتصرفان دائماً بهاجس الخلاص من الأصوات الحكيمة سواء صدرت من الداخل أو الخارج، فالحكمة عدوهما المشترك.

الناس يختارون نهاياتهم. منهم من يحملون صوراً ناصعة البياض على أكتافهم ويتنقلون بها عبر أصقاع العالم من دون خشية أي ملاحقة. لكن الذين يغادرون المناصب إلى القبور التي لا عناوين لها يلقون جزاء ما فعلت أيديهم، فقد حرموا ذوي الضحايا من مجرد أن تكون لديهم قبور يترحمون عليها.

لو لم يجد القذافي من يزين أفعاله ويبرر جرائمه من بين مسؤولي أجهزته لما كان له أن يمضي شارد الذهن، يبطش بالأصوات المعارضة. ولو لم يجد عبدالله السنوسي من أخطاء النظام سوى المزيد من الخطايا التي شجعته على أن يتحول من شاب وديع إلى وحش شرس لما أمكنه أن يحتل الموقع الذي رفعه إلى أعلى ثم أسقطه في براثن الجرائم.

هناك دائماً أناس يصنعون الاستبداد. وهناك آخرون يستلذون به. حتى إذا أفاقوا من غفوة الجنون كان مآلهم أن يندثروا من دون أن يأسف أحد على المصائر التي كانت بانتظارهم.