جون ديفي

أظن أنه يمكنني القول بقدر من الارتياح إن توقعاتنا التي نشرناها في مقالة الأسبوع الماضي بخصوص الموازنة العامة للمملكة المتحدة كانت صائبة إلى حد بعيد.

وقد ألقيت الأسبوع الماضي نظرة على قطاع الصناعة في المملكة المتحدة، وأسعدني أن أرى أن الموازنة العامة لبريطانيا تبدي ترحيبا، بل وحماسا، تجاه الاستثمارات التجارية. وقد استرعت انتباهي ثلاثة إعلانات لافتة للنظر هذا الأسبوع.

فقد ذكرت شركة laquo;برايس ووتر هاوس كوبرزraquo; أن ما بين 10 إلى 15 شركة متعددة الجنسيات تدرس إنشاء عمليات تشغيلية لها في بريطانيا، بعد الإصلاحات التي أجرتها الحكومة البريطانية على نظام ضرائب الشركات. وهذه الشركات منها شركات تعمل في مجالات المنتجات الصناعية والاستهلاكية، والتجزئة، والإلكترونيات، والاتصالات، كلها تتطلع إلى إقامة مراكز تشغيلية أوروبية لها في المملكة المتحدة.

الإعلان الثاني صدر عن laquo;مكتب مسؤولية الموازنةraquo; البريطاني، الذي يتوقع أن يزيد معدل النمو ليصل إلى 10 في المائة بحلول عام 2015 - 2016، ويعود بعض الفضل في هذا إلى تمتع الشركات البريطانية بملاءة مالية جيدة في الوقت الحاضر.

ثالث التطورات المشجعة هذا الأسبوع جاء من شركة laquo;غلاكسو سميث كلاينraquo;، عملاق صناعة الأدوية، التي أعلنت أنها تنوي استثمار 500 مليون جنيه إسترليني في مصنعها الجديد، الذي يعتبر أول مصنع تنشئه في بريطانيا منذ 40 عاما، وسوف يوفر هذا المشروع ما يزيد على ألف فرصة عمل، كما أعلنت أيضا زيادة المنشآت الصناعية في مصنعين لها بأسكوتلندا.

وتسير آفاق الاقتصاد العالمي نحو التحسن، بفضل البيانات المشجعة المتوالية الواردة من الولايات المتحدة، وتزايد مؤشرات تجاوز أزمة الديون الأوروبية المرحلة الحرجة إلى مرحلة أخرى أقل صعوبة، ولم تعد laquo;وحدة الاستخبارات التابعة لمؤسسة إيكونوميستraquo; (Economist Intelligence Unit) تعتبر أن الأزمة التي مرت بها منطقة اليورو أكبر تهديد يواجه النمو العالمي، حيث يرى كبير الخبراء الاقتصاديين بالوحدة أن ارتفاع أسعار النفط - وكذلك احتمال حدوث توقف تام في إمدادات النفط في حالة تفاقم التوترات الجيوسياسية المحيطة بالبرنامج النووي الإيراني مما قد يدفع الأمور إلى نشوب مواجهة عسكرية - هو الخطر الرئيسي الذي يتعين على الشركات التحسب له في 2012، وهذا أمر لا بد أن نفكر فيه جميعا بحذر واهتمام.

وقد شهد هذا الأسبوع دفعة جديدة في العلاقات الثنائية القديمة بين المملكة المتحدة والمملكة العربية السعودية، ولكن هذه المرة كانت الفعاليات في بريطانيا. وأعتقد أنه يمكنني تلخيص هذا الأسبوع في عبارة واحدة، وهي أن laquo;السعودية هي الأخرى ترحب بالاستثماراتraquo;.

ومن أبرز أحداث الأسبوع، بالنسبة لي، إفطار عمل حضرته في laquo;مانشن هاوسraquo;، المقر الرسمي لعمدة حي لندن المالي، مع سعادة الدكتور توفيق الربيعة، وزير التجارة والصناعة السعودي، وصاحب السمو الملكي الأمير محمد بن نواف بن عبد العزيز آل سعود، سفير المملكة العربية السعودية لدى المملكة المتحدة وآيرلندا، وعمدة لندن، كما حضر الاجتماع عضو المجلس التشريعي وعمدة البلدة ألان يارو، وعدد صغير من كبار رجال الأعمال في لندن.

ومن المواضيع الهامة التي تبادلنا الآراء والنقاشات حولها موضوع التعليم والتدريب والتأهيل، وأهمية حدائق العلوم، ودور الشركات الصغيرة والمتوسطة في إيجاد اقتصاد أوسع وأكثر ديناميكية، والدور الذي يمكن أن تلعبه صناعة رأس المال المغامر أو الاستثماري في كل هذا.

والغرض من مثل هذه المبادرات هو دعم ومساعدة المواطنين السعوديين، وخصوصا المستثمرين المحتملين الجدد، في تأسيس شركات خاصة تعمل على تحقيق أهداف اجتماعية اقتصادية من أجل الوصول إلى اقتصاد أكثر منافسة واستدامة. وقد ناقشنا أوجه التعاون في وضع استراتيجيات لإقامة الشركات الصغيرة والمتوسطة واحتضانها في السعودية، مع التركيز بشكل خاص على الشركات الصغيرة والمتوسطة المبتكرة في مجال التقنيات الصاعدة والمتطورة.

وقد كانت الأفكار التي طرحت أفكارا ممتازة، وهناك الكثير من المكاسب التي يمكن أن يحققها الجانبان من التعاون الثنائي بينهما. ومن أجل تحقيق نتائج مستدامة، فمن المنطقي أن نستمر في بناء علاقات شراكة استراتيجية بين القطاعين العام والخاص، سواء في المملكة أو في الشرق الأوسط بأكمله. ومن الممكن أن تشارك المملكة المتحدة مع المؤسسات السعودية في تدريب وتطوير الموارد البشرية، من خلال ما تملكه من إمكانيات هائلة في مجال التعليم والتدريب والتأهيل، والمساهمة بشتى الطرق في تحفيز الفرص المبتكرة أمام الشباب السعودي، وكذلك العثور على حلول متكاملة بالنسبة للمستثمرين السعوديين في مجال المشاريع الصغيرة والمتوسطة، ومساعدة الحكومة السعودية على إيجاد سبل لإتاحة الفرص أمام المشاريع الصغيرة والمتوسطة في المنطقة وصولا إلى الأسواق العالمية، مما يؤدي إلى زيادة إجمالي الناتج المحلي من خلال عائدات تلك المشاريع الصغيرة والمتوسطة.

ومن عوامل النجاح في المملكة المتحدة في مجال حدائق العلوم، وأيضا في مجال التمويل، ما يسمى laquo;الأثر العنقوديraquo; (cluster effect)، وقد انتشر مصطلح laquo;عناقيد الشركاتraquo; (business clusters) على يد مايكل بورتر من خلال كتابه laquo;الميزة التنافسية للأممraquo; (The Competitive Advantage of Nations) الذي صدر سنة 1990. وعنقود الشركات هو عبارة عن تركيز جغرافي للشركات والموردين والمؤسسات ذات الصلة التي يوجد بينها ترابط متبادل في مجال معين، ويعتقد أن العناقيد تساعد على زيادة الإنتاجية، مما يعطي الشركات القدرة على المنافسة، سواء محليا أو عالميا. كما تعتبر العناقيد من الجوانب بالغة الأهمية من الإدارة الاستراتيجية، حيث إن هذه الكتلة الحرجة من المهارات والخدمات والمعارف والمؤسسات يمكنها أن توفر أساسا لبناء القدرات التنافسية الاقتصادية.

وتعتبر مدينة لندن عنقودا كلاسيكيا، وهي تقع في قلب الأسواق المالية في العالم، وبالتالي فهي تعتبر تجمعا ليس له مثيل من الخبرات ورأس المال المقبل من مختلف الدول، من خلال نظام قانوني ورقابي داعم، وبنية تحتية متقدمة من تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات، وإمكانات جامعية وتدريبية على أعلى مستوى، ومجموعة هائلة من الخدمات المهنية. وهي تقع وسط عاصمة تنبض بالحياة والتنوع الثقافي، مما يجعلها من أكثر المدن إثارة على وجه الأرض، إضافة إلى وجود عدد هائل من المشاريع الصغيرة والمتوسطة المتخصصة بها.

ومن الممكن أن يوفر نظام العناقيد عملية فعالة للتنمية الاقتصادية، وزيادة قدرة الاقتصاد المحلي على التحمل، حيث إن تكتل الشركات في مكان معين لا يساعد على تعزيز المنافسة فحسب، بل قد تكون له أيضا فوائد خارجية تعود على جميع الشركات، وتتعلق هذه الفوائد بتبادل المعلومات والمدخلات المتخصصة والعمالة الماهرة، حيث إنه يمكن لأحد المواقع في العنقود أن يساعد الشركات على تحقيق الابتكار وتطوير القيمة المضافة، سواء في منتجاتها أو في عملياتها. وتتضمن ديناميكيات العنقود عادة تفاعلات بين الشركات والمؤسسات الداعمة والهيئات التنموية، سعيا لتحقيق أهداف مشتركة يمكن أن تؤدي إلى إنشاء أسواق جديدة للمنتجات والمدخلات والخدمات، مما يجذب مزيدا من الشركات إلى العنقود، وهذا بدوره يعمق فوائد التكتل أكثر وأكثر.

ولم يسبق أن حظي تحفيز نمو فرص العمل في القطاع الخاص بمثل هذه الأهمية، حيث وضعت مؤسسة laquo;سيتي أوف لندنraquo; برنامجا كبيرا لدعم الشركات، يهدف إلى تيسير سبل النمو للشركات الصغيرة في المناطق الثانوية من المدينة، عن طريق توفير المباني والتمويل والتوجيه، كما تقدم المؤسسة أيضا مخصصات مالية لدعم الشركات الصغيرة والمستثمرين الجدد في المناطق المحرومة.

وتظل laquo;كمبردجraquo;، التي تعتبر اسما مرموقا في مجال التفوق العلمي والأكاديمي في العالم، وكذلك المنطقة المحيطة بها، أكبر مثال على عناقيد العلوم والتكنولوجيا في المملكة المتحدة، بل في باقي أنحاء أوروبا. وقد انتهجت كثير من الشركات التي تأثرت بظاهرة laquo;كمبردجraquo; نموذجا تجاريا يقوم على تنفيذ عقود بحوث وتطوير للعملاء - فيما يعرف بالنموذج laquo;الناعمraquo; - بدلا من تطوير المنتجات laquo;الصلبةraquo; التقليدية.

وأفضل وسيلة لتطوير مشاريع صغيرة ومتوسطة مبتكرة هي طريقة العناقيد، ومن المتصور أن المشاريع الصغيرة والمتوسطة المبتكرة في السعودية وغيرها من بلدان الخليج يمكنها تطوير laquo;عناقيدraquo; حول بعض مشاريع التكنولوجيا المتقدمة القائمة حاليا. ونصيحتي لهم هي ضرورة القيام بتحليل فجوة لمعرفة كيف يمكن تحفيز ذلك التوجه العالمي داخل منطقة الشرق الأوسط.

وقد اختتمنا بضرورة أن نهتم جميعا بدراسة كيفية تشجيع الاستثمارات المشتركة بين المشاريع المتوسطة والصغيرة المبتكرة في المملكة المتحدة والمشاريع المتوسطة والصغيرة المبتكرة الجديدة في السعودية، والسعي لتحقيق تعاون ناجح في هذا المجال.

وفي النهاية، سعدت جدا بمقابلة بعض الأصدقاء من السفارة السعودية الذين كانوا يتابعون تلك المقالات التي نشرتها laquo;الشرق الأوسطraquo; أسبوعيا، والتي كانت مكملة لبعضها. فشكرا لكم أيها السادة الأفاضل.

*رئيس laquo;ألترا كابيتالraquo; وأستاذ زائر بكلية الأعمال - جامعة laquo;لندن متروبوليتانraquo;