أمينة أبو شهاب
هنالك سببان اثنان يدعوان لئلا يكون أمراً مفاجئاً أو خبراً جديداً أن نسمع بأن حزب النهضة الإسلامي التونسي قد رفض اعتماد الشريعة الإسلامية في الدستور الجديد كمصدر أساسي للتشريع، وأنه اكتفى بما هو موجود في الدستور من أن تونس بلد مسلم لغته العربية .
أول السببين هو أن حزب النهضة قد أعلن فعلياً في الحملة الانتخابية التي قادته إلى الفوز بأكبر نسبة من الأصوات أنه لن يُضَمِّن الشريعة الإسلامية في الدستور الجديد، ولن ينص عليها كأساس تشريعي للحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية أو الشخصية في الدولة الجديدة في تونس، وكأمثلة جزئية من سياسة الحزب التي لا تمثل الشريعة الإسلامية أرضية لها، قامت الاعلانات الانتخابية على الوعد بعدم فرض الحجاب، أو إعادة تشريع تعدد الزوجات وكذلك الأمر بالنسبة لصناعة الكحول التي تمثل 12% من الاقتصاد التونسي، والتي تذكر أرقام وإحصاءات تونسية أن العاملين في مجال هذه الصناعة يصلون إلى 350 ألف شخص . كانت قيادات حزب النهضة واضحة في تأكيداتها حول عدم الاقتراب منها .
أما السبب الثاني الذي يدعو إلى عدم الدهشة والعجب من خطوة إعلان تخلي حزب إسلامي لا زال منتمياً إلى جماعة الإخوان المسلمين عن إدراج الشريعة الإسلامية في الدستور، والتخلي أصلاً عن مهمة حراسة الشريعة وتطبيقها في المجتمع، كما هي تقليدياً مهمة أي تنظيم إسلامي، فهو يتمثل في تبني النموذج التركي في صورة حزب التنمية والعدالة بقيادة رجب طيب أردوغان . في ضوء نموذج هذا الحزب تتبين الصورة الأشمل للتحول الأيديولوجي الذي يجتهده حزب إسلامي عربي هو النهضة وخطوط وملامح هذا التحول .
أردوغان هو القائل بأن حزبه ليس ldquo;إسلامياًrdquo; بل ديمقراطياً محافظاً، أما راشد الغنوشي، مفكر النهضة وقائدها، فلم ينفِ إسلامية حزبه بل أخذ يؤكد على اعتدال حزبه وديمقراطيته وتوافقه مع المنظومة الفكرية الغربية . وما يتفق فيه حزب النهضة في أفقه الأيديولوجي الجديد مع حزب التنمية والعدالة التركي هو خط توافق الإسلام مع الديمقراطية الغربية، وليس العكس، الذي هو تبني ديمقراطية تتوافق مع النموذج الإسلامي . إن هذا الموقف الفكري قد اقتضى توجهات وسياسات وتشابهات يمكن رصدها في ما يلي:
* أولاً: التأكيد على ديمقراطية حزب النهضة وكون هذه الديمقراطية كصفة للحزب أولوية أيديولوجية . لقد صرح راشد الغنوشي قبيل عودته إلى تونس في 30 يناير/كانون الثاني 2011 لصحيفة ldquo;الفايننشال تايمزrdquo; قائلاً: ldquo;لقد شربنا كأس الديمقراطية كلها دفعة واحدة، ولم نرتشفها قطرة قطرة كما فعلت أحزاب إسلامية أخرىrdquo; .
إن هذا التبني الكامل للديمقراطية استتبع دوراً جديداً للحزب هو دور الضامن لحقوق المواطنين المتساوية بغض النظر عن دينهم أو جنسهم، كما صرح الغنوشي للصحيفة نفسها .
* ثانياً: لقد استتبع هذا التحول ألا تكون الأجندة الإسلامية هي الأساس في الخطاب الأيديولوجي والانتخابي لحزب النهضة .
* ثالثاً: الانتماء الفكري للنموذج التركي كان يعني أمراً رئيسياً ينبثق كذلك من التشابه في التركيبة العلمانية للدولة، وهو فصل الدين عن الدولة، وعمل ونشاط أي حزب إسلامي ضمن الإطار والبنية العلمانية للدولة .
* رابعاً: يعني النموذج التركي في أهم ما يمثله وأهم ما يمثل جاذبية للآخرين النجاح الاقتصادي وتحقيقه من خلال مكافحة الفساد، وإجراءات الشفافية المحفزة للاستثمار الأجنبي ودعم السياحة، ويترتب على هذا الاقتداء بالنموذج الاقتصادي وإعلاؤه كأولوية . إن مهمة الأحزاب الإسلامية ليست أسلمة المجتمع وفرض الشريعة والعمل بروحها وقوانينها وإنما تحقيق الرفاه الاقتصادي وإدارة عجلة السوق .
* خامساً: في ظل ما سبق وفي إطار النموذج التركي، فإن ما هو مطروح اقتصادياً وسياسياً من قبل أحزاب الإسلام المعتدل، كما تسمي نفسها، هو مشروع لا شك أنه يندمج في المنظومة السياسية والاقتصادية الغربية وكذلك في منظومة الهيمنة .
تركيا هي حليف مقرب ومهم للغرب، والذين يمشون على طريقها يمشون أيضاً على خط تحالفاتها السياسية وحتى العسكرية، أما ldquo;خناقاتrdquo; تركيا مع ldquo;إسرائيلrdquo; ومواقف التوتر بينهما فكل ذلك مقبول غربياً ضمن حدودها التي تقف عندها .
في ضوء السببين آنفي الذكر والمعطيات التي يوفرانها، لفهم السلوك السياسي لحزب النهضة، لماذا الدهشة بل الصدمة في الوسط التونسي حين إعلان الحزب منذ أيام ثلاثة قراره بعدم إدراج الشريعة الإسلامية في الدستور كأساس للتشريع؟ ولماذا كان تفاقم الانقسام الاجتماعي حول ثنائية الشريعة/المجتمع المدني، الذي وصل إلى حزب النهضة نفسه؟
إن الجواب عن هذا السؤال يكمن جزئياً في الفارق ما بين المقولات النظرية وبين ميدان الواقع، حيث إن لحظة الواقع هي لحظة إدراك المقولات وما تعنيه، ويبدو أنه قد شق على الكثيرين في الوسط الإسلامي التونسي أن يقوم حزب إسلامي بعد استلامه السلطة بالتخلي طوعاً وبإرادته عن الشريعة الإسلامية، وأن يقوم بدلاً من تعزيزها وحراستها بتوطيد النظام العلماني . لا شك أن بعض أنصار النهضة قد ظنوا أن ما كان يطرح سياسياً كان من باب الاستهلاك السياسي أو المناورة وأن حزب النهضة سيقوم بالوقوف مع الخيار الإسلامي رغم تعهداته ووعوده . ساعة أن أثبت حزب النهضة أنه في صدد إعداد دستور يستبعد الشريعة، ترسخت وتكاملت صورة معينة عن الحزب بالتفريط في الإسلام كما في قضايا أخرى استحق الهجوم عليها مثل القضية الفلسطينية والسير في طريق التطبيع .
والحقيقة أن طريق ldquo;الوسطيةrdquo; وrdquo;الاعتدالrdquo; الذي سلكه حزب النهضة واتخذه هوية معلنة له، يثبت أنه طريق شائك ومحفوف بالمهالك السياسية، ويبرز ذلك أكثر ما يبرز في قضية استبعاد الشريعة الإسلامية . فهذا الاستبعاد يفسر على أنه إرضاء للخارج المتمثل في الغرب وذلك كثمن للسلطة التي وصل إليها حزب النهضة . ومثل استبعاد الشريعة الإسلامية فإن كل صيغة ldquo;الاعتدالrdquo; وrdquo;الوسطيةrdquo; يمكن فهمها على أنها تسويق للنفس للغرب وذلك على حساب الدين وكل ما هو جذري وأساسي على المستوى القومي والإسلامي .
المفارقة أن السلطة التي سعت إليها أحزاب الاعتدال الإسلامي، بحسب ما تصف نفسها، يمكن أن تضيع أو تسحب منها من خلال إدراك شعبي عام بمساوماتها وصفقاتها لأجلها وبمنهجها البرغماتي للاستحواذ عليها . إن إمساك العصا عن الوسط ليس دائماً الطريق إلى النجاح، وفي بلد يعاني أزمة هوية ثقافية واجتماعية حادة، فإن ما يسمى ldquo;الانهزامrdquo; الحضاري للنهضة من خلال التخلي عن الشريعة التي لا تعني القصاص فحسب بل تعني أيضاً أطراً سياسية واقتصادية لحماية المجتمع من التغول الاقتصادي للعولمة، يطرح علامة استفهام عن ldquo;الجديدrdquo; لدى الحزب بالاختلاف عن العهد السابق، ويطرح كذلك معنى ldquo;الثورةrdquo; وما غيرته في المجتمع التونسي .
حصاد الانقسام والتشرذم وظهور بدائل تشبه حزب النهضة ما قبل التغيير، بعض نتائج وصول هذا الحزب الذي أعيدت أدلجته إلى السلطة .
التعليقات