سليمان تقي الدين

دخل لبنان في دوامة السلاح وهو يغادر تدريجياً لغة السياسة، معادلة السلاح بطبيعتها تقود إلى العنف الأهلي في بلد يصعب فيه الانتصار على الآخر وإخضاعه . يمتص السلاح دم اللبنانيين ويحطم إنجازاتهم ولا يحل خلافاتهم، وقد علمتنا الحرب أن لا قيمة لشيء اسمه ldquo;التوازن المسلحrdquo;، إذ لطالما يستطيع التدخل الخارجي أن يتلاعب بمصير هذا البلد الفاقد وحدته الوطنية، المنقسم على نفسه . نحن الآن في ذكرى التحرير من الاحتلال ldquo;الإسرائيليrdquo; حيث كان للسلاح شرعية وجدوى وللتضحيات معنى وقيمة . كانت مقاومة العدو على مدى عقود أشرف ظاهرة فرضت احترامها على العالم كله، رغم ذلك، ودون أن يكون الأمر استثناء، كان السلاح موضع تحفظ من فئات لبنانية كبيرة أم صغيرة، فانتصرت المقاومة المسلحة وأزالت بوهج الانتصار كل سؤال عن طبيعتها وجدواها . طوت ldquo;المقاومةrdquo; ذاكرة ldquo;مقاوماتrdquo; أخرى بعضها فئوي محض، وبعضها وطني شامل التكوين والفعل والانتماء، وكتب المنتصرون تاريخهم وتاريخ الآخرين، لكن المقاومة المنتصرة اختصرت نفسها ذاتياً وموضوعياً في مهمة واحدة هي مقاومة الاحتلال ثم في مهمة واحدة أخرى هي الدفاع عن حدود الوطن . لم تحمل المقاومة ثقافة الانتصار هذه إلى النظام السياسي والاقتصادي بل اندمجت فيه، ولم تقدر على الانضواء في مشروع دفاع وطني حقيقي موضع اتفاق لبناني، فأصرت على الانفراد بمهمة جديدة هي الدفاع عن لبنان وفق استراتيجية غامضة مرهونة في أساسها لقيام جبهة مشرقية تخلّعت مع التطورات الأخيرة .

في المنطق الوطني والعقلاني والبراغماتي يجب أن تحتفظ المقاومة بسلاحها طالما لا بديل منه، ويجب أن يتمتع هذا السلاح بالحماية طالما أن الصراع الوطني مازال قائماً مع عدو طامع . لكن هذا الأمر شيء وشعار ldquo;السلاح باق باقٍrdquo; شيء آخر، أو شعار حماية السلاح بالسلاح وتفريخ المجموعات المسلحة ورعايتها واحتضانها في مشروع سياسي داخلي . ونكاد نقع اليوم على نسخة معدّلة عن تجربة منظمة التحرير الفلسطينية، ونهلع من تكرار المآل والنتيجة، حيث يفتقد السلاح إلى الحماية السياسية والشعبية على المستوى الوطني . كانت منظمة التحرير تملك شرعية وقوة هائلتين وقد سقطت في موقعين: الأول علاقتها بالشعب، والثاني في انخراطها بصراعات الأنظمة . إذا كان الدرس الفلسطيني طرّياً في الذاكرة، فإما أننا لا نستفيد من هذا الدرس وهذا مصيبة، وإما أننا لم نعد بصدد مشروع تحرر وتحرير تجمع له طاقات الشعب، بل بصدد مشروع آخر وتكون المصيبة أعظم .

لنتجاوز التاريخ والمقدمات ونشخص حالنا اليوم، وقد نشأ توازن سياسي طائفي مسلّح على كثير من عدم توازن السلاح . نعرف تماماً أن الفريق اللبناني الذي طرح إشكالية سلاح المقاومة كان يستهدف الفكرة قبل الجماعة، والدور الوطني قبل المحاذير الأخرى، فشل في إسقاط الفكرة ونجح في محاصرة الجماعة . وها هو اليوم يسعى إلى تشويه الفكرة ذاتها بنشر السلاح على مساحة الطوائف ليجعل منه سلاحاً منبوذاً في كل مكان، بعد أن يجعل منه لعبة عبثية تدميرية لا طائل تحتها . لم يحصل ذلك بقدرة طرف واحد بل باستجابة واضحة من أصحاب الفكرة نفسها للخوض في سوق المساومة السياسية على السلطة وبين أصحاب الحصص الطائفية والتورط في النزاعات الإقليمية بغير ضوابط تقتضيها المصلحة اللبنانية . فهل يمكن الآن إنقاذ الفكرة والتجربة والمعنى النبيل وحفظ إرث التضحيات وحفظ كرامة السلاح لمعركة الدفاع الوطني، أم أن الأمور تجاوزت ذلك؟ ربما علينا اليوم أن نبادر إلى المراجعة النقدية للخطاب وللممارسة، ونحدد بوضوح طبيعة المرحلة الانتقالية التي تمر بها المنطقة لنجد ولنجدد شرعية سلاح المقاومة الدفاعي ودوره وعلاقته بتوازنات القوى الداخلية والإقليمية . في ظل الظرف الإقليمي وبعد القرار الدولي 1701 يتعاظم الوجه الداخلي لدور السلاح ويكاد ينحصر في الحفاظ على توازن سياسي يحرّض التناقضات الطائفية . إن التحالف السياسي الطائفي الذي نشأ داخل قوى النظام يفاقم من شعور الجماعات الأخرى بالحذر والقلق والغَبن، ومن نافل القول إن الدولة باتت أكثر شللاً والأوضاع الاجتماعية أكثر بؤساً والأوضاع الأمنية أكثر انفلاتاً . فهل كان لمثل هذا التحالف أو لمثل تلك السياسات من أثر إيجابي على اللبنانيين، أو أنها صبّت الزيت على نار التوتر الطائفي وزادتها اشتعالاً بتداعيات الأزمة السورية والمواقف الحادة والممارسات التي لا تراعي واقع الانقسام ومواريث التشنجات ومشاعر الضيق مما تركته مرحلة الهيمنة السورية على الداخل اللبناني؟ ليست المشكلة في وصف ما يجري على أنه حرب أهلية ترتفع حرارتها، أو مجرد توترات سياسية أمنية عابرة، بل المشكلة في مضمون ما يجري وينطوي على تباعد بين اللبنانيين والفئات اللبنانية وانعدام الثقة بمرجعية الدولة ومؤسساتها، وبالنزوع المتزايد إلى أشكال من الأمن الذاتي الذي يغرق عادة في الفوضى التي تعتاش منها الفئات الهامشية والمرتزقة . ولعلنا من القائلين إن الفرصة متاحة لحوار وطني يهدف إلى إنتاج تسوية حقيقية ممكنة أساسها تقوية دور الدولة ومؤسساتها وتعزيز المشاركة فيها وتوسيعها باتجاه فئات اجتماعية وسياسية أوسع والخوض في برنامج الإصلاح السياسي والاقتصادي، وتفعيل وتطوير وتنزيه دور القضاء ونظام العدالة والأمن، وإحداث صدمة قوية في مجال وقف النهب واسترداد أملاك الدولة ومرافقها وحماية أموالها، ووقف التقاسم المفضوح للخدمات وهدرها . ويبقى السؤال الملح عن حظوظ اللبنانيين في رسم هوامش استقلالية لقرارهم في ظل الصراع الإقليمي؟

إن الأطراف الإقليمية الفاعلة لا يمكن لها أن تتصور فعلياً سيطرة كاملة حاسمة على القرار اللبناني، وهي بالتالي تدرك حدود وسقوف التدخل والتأثير والنهايات، وإن تسوية لبنانية تحفظ المصالح الأساسية والمشروعة لهذه الأطراف يمكن أن تكون مفيدة وضامنة للمكونات الداخلية التي ترتكز عليها تلك المصالح . وقد سبق وانعقدت تسويات وشارفت تسويات أخرى على الانعقاد، ما يؤكد الحاجة والضرورة والإمكان . فهل على اللبنانيين أن يجربوا ما سبق لهم أن جربّوه من حروب ونزاعات لكي يعودوا ضعفاء مشلّعين إلى طاولة الحوار والتفاوض على شروط العيش معاً كيف ما كانت صيغة تلك العيش السياسية مركزية أم توافقية طائفية أم فيدرالية أم سوى ذلك؟

في ذكرى التحرير وفاء للشهداء، إكراماً للضحايا والتضحيات، علينا أن نبحث عن حلول سياسية للمشكلات لا أن ندفع بها إلى دائرة العنف والتجاهل والإنكار .