محمد السعيد إدريس
أربعة أيام مرت شديدة الوطأة علي كل المصريين منذ أن أعلن المستشار حاتم بجاتو الأمين العام للجنة الانتخابات الرئاسية مساء يوم الأربعاء الماضي تأجيل إعلان اسم الرئيس الفائز في انتخابات الإعادة إلي أجل غير مسميrlm;.
فقد استشعر الكثيرون أن ثمة أشياء مهمة وربما خطيرة تحدث في الكواليس لا يعلم أحد عنها شيئا.
وبدأت التخمينات تتوالي بين من يؤكد أن ما يعرف بـ الدولة العميقة أي كل ما تتضمنه الدولة من مؤسسات, وأجهزة حكم ومن بينها الجيش والشرطة وكل أجهزة الأمن ترفض رفضا قاطعا إدخال شخص من خارجها إلي عمق أسرارها التي باتت أشبه بـ بصندوق أسود ملئ بشتي أنواع ممارسات الفساد والطغيان يستحيل أن تفتح أمام رئيس ليس من المنتسبين إليها, وكان معني هذا النوع من التخمين أنه لا بديل عن فرض أحمد شفيق حتي لو أقتضي الأمر تزوير نتيجة الانتخابات, وبين من يري أن الحل الأفضل هو إلغاء نتيجة الانتخابات تحت مزاعم وجود تزوير واسع المدي في صناديق الاقتراع لمصلحة كلا المرشحين.
إلغاء الانتخابات اعتبره البعض الحل الأمثل لأكثر من سبب; أولها, أنه يستبعد نهائيا مرشح الإخوان المسلمين. وثانيها, أنه يعفي القضاء من كارثة التزوير. وثالثها, أنه يمنح الفرصة للمجلس الأعلي للقوات المسلحة كي يبقي سيد الموقف بعد أن حل مجلس الشعب, وأسرع في إعلان استرداده لما أسماه سلطة التشريع, ثم أكمل ذلك بإجراءات مهمة وخطيرة توحي كلها أنه حريص علي أن يظل أحد مراكز القوة المؤثرة في النظام السياسي الجديد, كان من أبرزها ما تضمنه الإعلان الدستوري المكمل من نصوص تؤكد الحرص علي فرض خصوصية للجيش فوق السلطات الثلاث, ونصوص أخري تنتقص من سلطات رئيس الجمهورية, والتشكيل الجديد لمجلس الدفاع الوطني الذي أعطي الغلبة للعسكريين علي المدنيين في عضوية هذا المجلس.
فقد أدت مجمل التفاعلات هذه إضافة إلي ما شهدته الخريطة السياسية من صراعات بين القوي السياسية المدنية علي وجه الخصوص والتيار الإسلامي علي مدي ما يقرب من عام ونصف العام وخروج مرشحي الثورة من حلبة التنافس الرئاسي إلي تكريس واقع شديد الاختلال لتوازن القوة علي النحو التالي:
طرف قوي يمثل الدولة وأجهزتها يدعمه المجلس العسكري.
طرف ثان يمثل الإخوان المسلمين دون دعم صريح وواضح من باقي فصائل التيار الإسلامي.
خريطة توازن القوي
هذه الخريطة لتوازن القوي فرضت استقطابا بين هذه الأطراف الثلاثة, تسيدت فيه التفاعلات الصراعية بين المجلس العسكري مدعوما بالدولة ومسنودا من حملة أحمد شفيق وبين الإخوان, وتبين أن الطرف الثالث الذي يمثل القوي المدنية سيكون الطرف المرجح في إدارة الصراع بين المجلس العسكري أو بين الدولة العميقة وأجهزتها وجماعة الإخوان المسلمين ومرشحهم محمد مرسي.
كان واضحا أن المجلس العسكري يفضل نموذج الاستقطاب الثنائي بينه وبين الإخوان ومرشحهم بعد أن أكد الإخوان رفضهم الصريح لمجمل ما اتخذه المجلس العسكري من إجراءات في الأسبوعين الأخيرين فهم منها الإخوان أن المجلس العسكري غير جاد في وعده بتسليم السلطة, أو تسليمها منقوصة في أحسن الأحوال, لكن الإخوان كانوا علي النقيض أميل إلي كسر هذا الاستقطاب الثنائي لأنه لم يكن في صالحهم وكانوا حريصين إلي استمالة هذا الطرف الثالث أو الجزء الأكبر والأهم منه, ولكن مع حرص لا يقل أهمية علي مواصلة الحوار مع المجلس العسكري وبالذات اللقاء الذي دخل فيه كل من الدكتور سعد الكتاتني رئيس مجلس الشعب والمهندس خيرت الشاطر نائب المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين, ولم تتكشف أسراره بعد, لكن يبدو أنه كان يرمي إلي تخفيف حدة الاحتقان بين الطرفين أولا, والبحث في أمر تسليم السلطة للرئيس المنتخب, دون تجاهل بالطبع لموضوعي المطالبة بإيجاد حل أفضل لحكم المحكمة الدستورية العليا المتعلق بعدم دستورية بعض نصوص قانون انتخابات مجلس الشعب والبحث في موضوع الإعلان الدستوري المكمل أو المكبل علي نحو ما أخذ يوصف بسبب تقليصه لسلطات رئيس الجمهورية لمصلحة المجلس العسكري.
يبدو أن هذا اللقاء لم يسفر عن نتيجة مرضية للإخوان علي نحو ما جاء علي لسان المهندس خيرت الشاطر الذي صرح بأن الطرفين التقيا لبحث سبل الخروج من الأزمة لكنه أوضح أن قادة الجيش يرون أنهم المالكون للسلطة.. ولم نصل بعد لتسوية في حين أكد اللواء ممدوح شاهين التزام المجلس العسكري بالتحول الديمقراطي.
وسط هذا كله جاء تحرك الإخوان لاختراق كتلة الأحزاب والقوي السياسية وإشراكها كطرف مباشر في الصراع مع المجلس العسكري, وهنا كان الدور البارز والمميز للقيادي الإخواني الدكتور محمد البلتاجي الأكثر انفتاحا علي القوي السياسية المصرية بكافة اتجاهاتها.
فقد أجري البلتاجي ابتداء من مساء الأربعاء الماضي وعلي مدي يوم الخميس اتصالات موسعة مع قوي سياسية عديدة من أجل تنظيم لقاء يجمع رموزا وطنية وثورية من جميع التيارات مع قيادات من حزب الحرية والعدالة للبحث في سبل الخروج من الأزمة.
لقاء فيرمونت المطار
هذه الاتصالات أسفرت عن اللقاء المهم الذي جمع الكثيرين من الرموز السياسية والوطنية وممثلي ائتلافات شباب الثورة مع الدكتور محمد مرسي ورموز إخوانية في فندق فيرمونت المطار الذي بدأ الساعة التاسعة مساء وامتد حتي الساعة الثانية من صباح يوم الجمعة, وتوصل إلي مسودة بيان جري إعداده سريعا, لكن أمكن إعادة مراجعة هذا البيان وتنقيحه بعد ذلك وتجهيزه لاجتماع آخر اتفق عليه في تمام الساعة الثانية والنصف من ظهر يوم الجمعة الماضي يتواصل فيه الحوار حول البيان ثم يعقد مؤتمر صحفي يشارك فيه الدكتور محمد مرسي ويتم خلاله تلاوة هذا البيان.
فعلي مدي أكثر من خمس ساعات امتدت بين الشد والجذب والعتاب واللوم بين الحاضرين من رموز القوي الوطنية والثورية بجميع اتجاهاتها أمكن التوصل إلي توافق مشترك علي تشكيل جبهة وطنية لإدارة الأزمة التي تعيشها مصر تكون مدخلا لتأسيس شراكة وطنية واسعة بين كل القوي الوطنية بكل تياراتها تقود إلي توافق أوسع حول مشروع وطني للنهضة يرتكز علي الدستور الجديد.
الحديث عن الشراكة الوطنية قاد إلي حوار امتد طويلا حول مجموعة من المفاهيم أبرزها ضرورة اتخاذ الدكتور محمد مرسي مبادرات عملية مؤكدة بعيدا عن الوعود المكررة تعيد الثقة مجددا بين الإخوان والقوي السياسية الأخري, والتأكيد أن الحكم لن يكون إخوانيا, وأن الدكتور مرسي لن يحكم باسم الإخوان أو برنامج الإخوان ولكنه سيحكم باسم هذه الشراكة الوطنية, وأنه لن يكون هناك احتكار للسلطة وللحكم ولكن سيتم تشكيل فريق رئاسي تشارك فيه رموز وطنية ومرشحو الانتخابات الرئاسية وغيرهم, وأن يكون رئيس الحكومة من خارج التيار الإسلامي وأن تكون الحكومة الجديدة حكومة إنقاذ وطني تضم كفاءات وطنية من كافة التيارات.
هذه المطالب لقيت قبولا من الدكتور محمد مرسي الذي كان يعود في معظم مداخلاته إلي برنامجه الانتخابي, وهنا كان التدخل من الطرف الثاني بتأكيده علي أن الحوار لا يتم علي قاعدة برنامج الدكتور مرسي أو برنامج الإخوان ولكن علي مشروع شراكة وطنية تمثل كل مكونات المجتمع المصري, هذه الحوارات امتدت بعد ذلك عند إعادة صياغة البيان أو مشروع البيان الذي تلي في ختام الجلسة الممتدة, وشارك في إعادة الصياغة هذه كل من الدكتور عبد الجليل مصطفي رئيس الجمعية الوطنية للتغيير والإعلامي الأستاذ حمدي قنديل والدكتور محمد السعيد إدريس رئيس لجنة الشئون العربية بمجلس الشعب والكاتب الأستاذ أيمن الصياد والناشط السياسي وائل غنيم بمشاركة كل من الدكتور محمد البلتاجي الأمين العام لحزب الحرية والعدالة والدكتور أسامة ياسين القيادي الإخواني ورئيس لجنة الشباب بمجلس الشعب حيث كانت المشكلة المثارة تتعلق بأمرين; الأول, موضوع الدولة المدنية. والثاني, يتعلق باللجنة الخاصة بصياغة الدستور, حيث اتفق علي النص علي الدولة المدنية بما يتضمنه من معان أساسية أبرزها الديمقراطية والمواطنة الكاملة المتساوية لكل المصريين والدولة العصرية ومجمل ما تضمنته وثيقة الأزهر الشريف, أما بالنسبة للجنة الخاصة بالدستور فقد تركز الأمر علي ضرورة إجراء تعديل في العضوية يسمح بإعادة التوازن بين جميع القوي السياسية وتستعيد التوافق الوطني دون أن يؤدي ذلك إلي حل اللجنة, أو ما يؤدي إلي حل اللجنة.
هذا التوافق حول تشكيل الجبهة الوطنية قاد إلي بحث ضم أعضاء جددا لهم أهميتهم وخاصة مرشحي الرئاسة إضافة إلي الدكتور محمد البرادعي, الذي تولي الأستاذ وائل غنيم الاتصال به قبيل انتهاء الاجتماع وجاء الرد يقول إنه لن يحضر اجتماع ظهر الجمعة وأنه يفضل أن يبقي علي حياديته كي يتمكن من القيام بوساطة بين الجبهة والدكتور مرسي مع المجلس العسكري وهي وساطة يري أنها حتمية وضرورية.
وجاء اجتماع يوم الجمعة ليكمل ما جري من حوارات سابقة ويعيد التأكيد علي ضرورة اتخاذ الدكتور محمد مرسي مبادرات تستعيد ثقة القوي الوطنية في الإخوان, ويعيد التأكيد أيضا علي الفريق الرئاسي وعلي أن يكون رئيس الحكومة شخصية وطنية مستقلة أي من خارج الإخوان المسلمين وهذا ما أكده الدكتور مرسي في كلمته بالمؤتمر الصحفي وما تضمنه البيان الذي ألقاه الإعلامي حمدي قنديل الذي أكد في مقدمة كلمته أن المشاركين من رموز القوي الوطنية والحركات الثورية لم يشاركوا في هذا المؤتمر علي قاعدة مبايعة الدكتور محمد مرسي أو التحالف مع الإخوان ولكنهم يشاركون علي قاعدة الجبهة الوطنية العريضة وانطلاقا من إدراك خطورة الظروف التي يمر بها الوطن التي لم تعد تحتمل المزيد من الصراع والاستقطاب السياسي.
أبعاد الاجتماعات الموازية
رغم ذلك فإن ردود الفعل جاءت متباينة علي ما جاء في المؤتمر الصحفي وما تضمنه البيان الذي عبر عن مجمل ما تضمنه الحوار بين رموز القوي الوطنية والدكتور محمد مرسي وجاء أبرز الردود في مبادرة قوي وطنية ليبرالية ويسارية بعقد اجتماع آخر مواز دعت خلاله إلي تأسيس ما اسمته بـ التيار الثالث وهي الدعوة التي كان قد بادر بإعلانها المرشح الرئاسي الأستاذ حمدين صباحي عقب إعلان نتائج جولة الانتخابات الأولي, حيث اعتبر أن تأسيس هذا التيار من القوي التي قالت لا لأحمد شفيق ولا لمحمد مرسي الرد البليغ علي نتائج تلك الجولة الانتخابية, لكن دعوة التيار الثالث الجديدة استهدفت الرد علي تأسيس الجبهة الوطنية التي اعتبرت انحيازا للتيار الإسلامي, وذلك بتأسيس تيار يقول لا للحكم باسم الدين ولا للحكم العسكري علي نحو ما جاء في البيان الختامي لذلك الاجتماع الذي تلاه البرلماني السابق الأستاذ علاء عبد المنعم الذي قال فيه: نعلن تأسيس أوسع تكتل مدني, وشعارنا: لا للاستبداد باسم الدين أو عودة النظام السابق مؤكدا علي رفض هذا التيار الثالث لما أسماه زواج الدين بالسلطة مطالبا باحترام أحكام القضاء والتكتل لكتابة دستور مدني.
كان واضحا أن هذا الاجتماع الذي شارك فيه شخصيات عامة وقيادات حزبية وبرلمانية سابقون من أبرزهم الأستاذ جورج اسحاق, والمهندس نجيب ساويرس والدكتور أحمد سعيد رئيس حزب المصريين الأحرار والدكتور سعد الدين إبراهيم, والدكتور أسامة الغزالي حرب, والأستاذ حسين عبد الرازق وما يكل منير, ومارجريت عازر ومحمد أبو حامد وغيرهم كان مدركا لوجود مؤشرات تري أن نتيجة الانتخابات الرئاسية لن تكون في صالح المرشح محمد مرسي ومن هنا كانت الدعوة إلي احترام أحكام القضاء, إضافة إلي رفض مطلب عودة مجلس الشعب, لكن كان هناك أيضا رفض لتأسيس الجبهة الوطنية الواسعة التي أعلن عنها في المؤتمر الصحفي الذي شارك فيه الدكتور محمد مرسي بفندق فيرمونت المطار بعد ظهر الجمعة الماضي, ناهيك عن رفض احتمال فوز محمد مرسي حسب ما أكده شعار لا لزواج السلطة بالدين.
وسط هذا كله كانت تمر الساعات ثقيلة وصعبة علي ملايين المصريين وظل سؤال من سيكون الرئيس: أحمد شفيق أم محمد مرسي أم لا هذا ولا ذاك وأن إلغاء الانتخابات سيكون هو الحل الأمثل, وما هي التداعيات المحتملة لأي من هذه الاحتمالات خاصة في ظل وجود حشد هائل في التحرير وتسخين إعلامي يحذر من مواجهات دامية محتملة.
إعلان فوز محمد مرسي
ساعات صعبة لم يتفوق عليها في صعوبتها غير ذلك البيان الطويل وشديد القسوة علي ملايين المصريين الذي ألقاه المستشار فاروق سلطان رئيس اللجنة العليا للانتخابات الرئاسية رئيس المحكمة الدستورية العليا. كانت الملايين تتشوق لمعرفة من الرئيس وكان المستشار سلطان يتمادي في عتابه, وهو العتاب الذي فهم منه الكثيرون أنه عتاب حق لكنه عتاب حمل مؤشرات الدفاع عن نزاهة اللجنة بقدر ما حمل من مؤشرات تقول أن محمد مرسي هو الفائز, وبالفعل أعلن فوز محمد مرسي بالرئاسة لتبدأ مصر عهدا جديدا من تجديد الأمل بإنجاح الثورة, وتجديد الأمل بأن يوم الثاني عشر من فبراير2011 قد أعاد مرة أخري الثورة وهو اليوم الذي اختفي وظل مختفيا طيلة الأشهر الماضية, فقد أسقط رأس النظام المخلوع يوم11 فبراير2011 لكن يوم12 فبراير2011 اختفي مع اختفاء الثورة ومصادرتها ليعود مجددا مع يوم الرابع والعشرين من يونيو2012, ويجدد بعودته عودة الثورة بأهدافها وشعاراتها لكل المصريين.
التعليقات