عبدالله بن بجاد العتيبي

ألقى رئيس مصر المنتخب quot;الإخوانيquot; محمد مرسي أربع خطاباتٍ: كان الأوّل منها هادئاً ومليئاً بالمواعظ الدينية المستجلبة من التراث، والتي لا تمت بصلة لمفهوم الدولة المدنية الحديثة التي يفترض أنّه انتخب على أساسها، وخاطب سائقي التوكتوك ونسي الفنّ والإبداع وخاطب كل المحافظات ونسي القاهرة والجيزة. والثاني كان من منصة ميدان التحرير وقد خرج فيه غاضباً مزمجراً، هائجاً متحمساً، يريد الإيحاء بقوته الشخصية وحرص فيه على استدراك أخطاء خطابه السابق والمحافظات والفئات التي أغفلها، وقدّم فيه وعوداً حاول فيها مجاملة كل مؤيديه، فالشباب الثائر سيأخذ لهم بدماء الشهداء وسيطلق المعتقلين، والسلفيون سيطلق لهم الشيخ المتطرف عمر عبدالرحمن من أميركا، وهو يردّد شعارات الثوّار بين حينٍ وآخر، كما لم ينس ملاعبة المجلس العسكري والمؤسسة القضائية حين أصرّ وكرر بأنّ ميدان التحرير الذي يضم فئةً قليلةً بكل المقاييس من الشعب المصري هو مصدر الشرعية الأولى وإن خاطبهم بالشعب -وبالمواطنين على مضضٍ- بعد تفضيله تسميتهم بالأهل والعشيرة في خطابه الأوّل، ثم وعد بدولةٍ مدنيةٍ دستوريةٍ حديثةٍ. وجاء الثالث من جامعة القاهرة بعد تأديته اليمين الدستورية أمام المحكمة الدستورية والذي عرض فيه رؤيته للداخل المصري ولعلاقات مصر الخارجية، ورابعاً خطابه في احتفال القوّات المسلحة بتسليمه السلطة حيث كال المدائح بشتى أنواعها للقوات المسلحة ورجال الشرطة.

في تاريخ الجمهورية المصرية ثلاث منصات تقفز للذاكرة: الأولى: منصة المنشية حيث قامت جماعة الإخوان بمحاولةٍ لاغتيال عبدالناصر استمراراً لنهجهم التأسيسي في تبرير العنف واستخدام الاغتيالات السياسية عن وعيٍ وتخطيطٍ وتنظيمٍ تجاه خصومهم في القضاء كاغتيال القاضي الخازندار وفي السياسة كاغتيال رئيس الحكومة النقراشي. والثانية: منصة السادات، حيث اغتال أبناء خطاب quot;الإخوانquot; المزدوج الرئيس المصري أنور السادات. والثالثة: منصة التحرير والرئيس مرسي الذي أراد التأكيد للناس أنّه لا يخشى الرصاص، ولا يلبس درعاً واقياً، وقد فتح قميصه من خلف كتيبةٍ من الحرس الخاص ليثبت ذلك.

يبدو أنّ جماعة الإخوان والرئيس مرسي يعتمدان كثيراً على حالة التوهان المفاهيمي والسياسي في مصر، فهو حين يتحدّث عن quot;الدولة الدستورية المدنية الحديثةquot; فهو يتحدّث عن دولةٍ مدنيةٍ سبق للإخوان أن قدّموا لها تفسيراً لا يتفق مع المفهوم المدني الحديث، وهو حين يشير للدستور يعلم أنّ معركة الدستور لم تزل قائمةً، وأنّ quot;الإخوانquot; سيسعون بقضهم وقضيضهم للتحكم بصياغته النهائية، فهو يتحدث عن دستورٍ سيضعه الإخوان.

رؤساء الجمهورية في مصر يمكن تصنيفهم كالتالي: عبدالناصر الرئيس الثائر والسادات الرئيس المؤمن ومبارك الرئيس المخلوع ثم يأتي مرسي، والذي يبدو لي أنّ العمل جارٍ لإظهاره باعتباره الرئيس الزاهد.

أحسب أنّه في قادم الأيام ستظهر روايات وتروى قصص عن زهد الرئيس مرسي وعن عدم انخراطه في أي فسادٍ ماليٍ بأي شكلٍ من الأشكال، وربما ظهرت صور تحكي قصة هذا الزهد، وتبرزه للعامة، وستنطلق مكينة الإخوان الإعلامية وبعض وسائل الإعلام التابعة لهم والمؤيدة لخطهم لترسخ تلك الصورة ونشرها على أوسع نطاق، وربما أضافوا إلى ذلك شيئاً من الخرافات التي بدأت سوقها تتحرك في الثناء على تواضع مرسي وارتفاع البورصة ودخل قناة السويس بعد فوزه مباشرةً، والقادم أفظع.

إنّ هذا ليس مستغرباً، فزهد الآيديولوجيين ومحاربتهم للفساد المادي معروفٌ لدى رموز وتيارات quot;اليسارquot; عبر العالم، ومعروفٌ عن بعض قيادات المتطرفين الإسلامويين كـquot;القاعدةquot; وأمثالها، وسيكون من خطل الرؤية أن ينظر لمعيار الفساد المادي كمعيارٍ رئيسٍ في تقويم تجربة مرسي في الحكم ومقارنته -باعتبار هذا المعيار وحده- بالمرحلة السابقة أو بالنموذج المطلوب.

أحسب أنّ أحد أهمّ المعايير الجديدة التي يجب أخذها في الاعتبار ورصدها هو ما هي السياسات التي سيتخذها مرسي لترسيخ ونشر عناصر تنظيم quot;الإخوانquot; أو الآيديولوجيا quot;الإخوانيةquot;، التي جاء منها في مفاصل الدولة، وهل سيسعى لإحكام السيطرة على كل المؤسسات وبخاصة الفاعلة منها كالجيش والقضاء والمجالس المنتخبة والدستور ونحوها بحيث يكون قادراً على أن يكون ديكتاتوراً جديداً أم لا؟

انتهت الانتخابات، وانقضت فورة الاحتفالات، وانفض سامر الشعارات، وحانت ساعة الفعل حيث سيواجه مرسي التحدّيات الداخلية والخارجية الكبرى التي تغرق فيها مصر، كيف سيدير الصراعات الداخلية بين القوى السياسية؟ كيف سينهض باقتصاد مصر؟ وماذا سيصنع بالسياحة التي تشكل واحداً من أهم مصادر الدخل في مصر؟ ثم، كيف سيفرض هيبة الدولة؟ وإقليمياً كيف سيتعامل مع إسرائيل؟ وكيف سيقابل وفودهم؟ وكيف ستكون قدرته فائقةً في تجاوز كل خطاب quot;الإخوانquot; ضدّ اتفاقية كامب ديفيد؟ وهل سينحاز لإيران ضد دول الخليج وفقاً لتاريخ جماعة quot;الإخوانquot; أم سيسعى للاستفادة من تلك الدول في بناء الدولة المصرية من جديد؟ إلى أسئلة مثيلة لا تنتهي تحمل في طيّاتها ما تفرضه السياسة من خياراتٍ تتراوح بين الصعب والأصعب ولا مجال فيها للشعارات ولا لفصاحة اللغة ولا للقدرة على استحضار شواهد التراث.

إنّ انحيازه لأي توجهٍ معينٍ في إجابة هذه الأسئلة وأمثالها سيفتح عليه شياطين الخلافات والنزاعات والصراعات، وسيكون لكل خطوةٍ ثمن، ولكل قرارٍ معارضون، والمشي في حقل ألغامٍ متحركٍ ليس نزهةً مريحةً ولا موعظةً خطابيةً، ولن يجدي تطييب الخواطر وتكرار الشعارات شيئاً في بناء التوازنات الجديدة والتعامل مع المشكلات على الأرض وتحقيق الإنجازات.

لست أدري حقاً كيف يريد البعض أن يقنعنا أنّ مرسي المنخرط في جماعة quot;الإخوانquot; وآيديولوجيتها وتنظيمها منذ عقودٍ متطاولةٍ سيصبح بين عشيةٍ وضحاها رئيساً مدنياً مستقلاً بفكره وقراراته وقيادته؟ إن البشر لا يتغيّرون في لحظةٍ واحدةٍ من النقيض إلى النقيض. من المؤسف القول بأنّ قوّة الفوضى ستستمرّ بمصر حتى بعد انتخاب رئيس جديدٍ، فالواقع لا يعرف الحلول السحرية، وليس بعدم الفساد المادي وحده ينجح الرؤساء وتنهض الدول.