أمجد عرار

مئات القتلى والجرحى سقطوا في أحد أشد الأيام دموية في العراق منذ ما يزيد على عامين، ثلاثة وعشرون هجوماً انتحارياً وعبوات ناسفة وسيارات مفخّخة، وهجمات مسلحة، كلّها حدثت بالتزامن في 14 مدينة عراقية . من المسؤول عن شلال الدم هذا؟ الإجابة عن هذا السؤال تتجاوز البعد الجنائي والبحث عن الفاعل بالمعنى الحقيقي، فهذا له أهل اختصاص ولا يمكن تناوله في مقال . لكن ما جرى ويجري في العراق من فوضى وعمليات قتل متعددة الوسائل، يختزل حال البلد وأوضاعه منذ احتلاله تحت عنوان الحريّة وإشاعة الديمقراطية وحقوق الإنسان .

في واقع الحال، ما أوجده الاحتلال في العراق هو النقيض الكامل للعناوين التضليلية والشعارات التي رفعت، فضلاً عن الدوافع الكاذبة التي سيقت لتبرير الغزو والاحتلال، وهي كي لا ننسى، أسلحة الدمار الشامل التي جرى التهويل بها في حملة منظمة وبواسطة ماكينة إعلامية معولمة هائلة الانتشار والتأثير . ما أوجده الاحتلال بعد الغزو وإسقاط الدولة، هو تدمير فكرة الإحساس بالمواطنة، ما أوجد أو مهّد الطريق لنشوء الطوائف والميليشيات لتحوّل العراق إلى مسرح لصراع القوى الخارجية على أرضه بلا أدنى حد من مراعاة مصالح العراقيين .

لا يعني هذا أننا يجب ان نعلّق كل ما يحدث على المشجب الخارجي، فالعامل الذاتي عادة ما يضطلع بدور مهم وحاسم في صياغة المشهد المجتمعي والسياسي . وفي هذا الصدد يمكن القول إن بعض القوى السياسية وقعت في فخ التقليد الاستعماري القديم الجديد، وساهمت في تفكيك اللحمة الوطنية لمصلحة التقسيم الديمغرافي للشعب الواحد، وتحويل البلد إلى صندوق بريد لتبادل الرسائل بين الجهات الخارجية . القوى السياسية العراقية لم تحدد حلقة مركزية لكي تمسك بالسلسلة، ويتعامل كل منها مع نفسه كممثّل لطائفة، وكان من شأن هذا أن يتسلل إلى أبناء الشعب، وبخاصة أولئك الذين تحكمهم العاطفة والمهيئين للولاءات الطائفية وتداعيات هذا الولاء على حساب الولاء للوطن .

القوى السياسية العراقية استسلمت لمخطط المستعمر في استبعاد النظام السياسي القائم على أساس المواطنة لصالح نظام المحاصصة الطائفية، لذلك رأينا كيف أن الخريطة السياسية التي أخفت تحتها تشكيلاً غير سياسي، لم تستقر حتى عندما جاءت نتيجة للانتخابات، ذلك أن النظام الانتخابي تضمن كمائن وقنابل موقوتة أفرزت ما نراه من صراع بين مكونات النظام السياسي .

عندما يجري تأسيس مبنى الحكم على أساس تقسيمي، وحين يجري تفريغ الشعب من وحدته على أساس المواطنة ويعاد تشكيل المجتمع على نحو متبادل العدائية، فإن هذه البيئة تشكل دفيئة بظروف معيارية للفوضى والإرهاب الذي يتغذّى على الشرذمة ويقوى في أوساط الشعب المفكّك، ويستظل بظل نظام سياسي مأزوم . هذا الإرهاب مثل الكوارث الطبيعية، لا يميّز بين الناس على أي أساس، فعندما يحدث الزلزال لا ينتقي ضحاياه وفقاً لخلفياتهم العرقية والدينية، وحين يضرب وباء تجمّعاً سكنياً، فإن ضحاياه سيكونون من كل الأعمار والطوائف والعرقيات .

الآن يعيش العراق تداعيات احتلاله رغم الانسحاب العسكري الأمريكي قبل بضعة أشهر، ومازالت الفرصة متاحة لقواه السياسية لجعل البلد وحده مظلّة للجميع، لأن وحدة القوى السياسية ووحدة قادة الطوائف والأعراق تشكّل الأساس الأهم لاستعادة اللحمة الوطنية والبدء بترميم ما خرّبه الاحتلال وما أفسدته الفتنة . وإذا كان العراق قد بذل كماً كبيراً من الدماء، فإن الزمن الذي أمامه أهم من الذي مضى، ولا بد للجميع أن يتصرّف بمسؤولية هي وحدها الكفيلة بقطع الطريق على كل من يرغب بمصادرة مستقبل العراق .