محمد مصطفى علوش


في شهر واحد فقط، تحصد عمليات القتل والتفجيرات المتنقلة في العراق 325 شخصا في عدد من المدن والمحافظات.. إنه شهر يوليو الفائت. لم تشهد العراق منذ عامين هذا الكم من القتل وسقوط الضحايا حتى في عز نشاط تنظيم القاعدة في العراق.. أصابع الاتهام التي لم تكن بعيدة عن بصمات القاعدة ما لبث أن أكدها أبو بكر البغدادي أمير ما يسمى دولة العراق الإسلامية منذرا ببدء عملية هدم الأسوار في مواجهة العملية السياسية القائمة في العراق..

لا شك أن عودة الجماعات المسلحة للنشاط في العراق من جديد، يضع الحكومة العراقية بقيادة نوري المالكي في قفص الاتهام لأسباب تبدأ باستفراد المالكي وإحكام قبضته على الأجهزة الأمنية كافة بوزاراتها، حيث عجزت عن لجم الإرهاب قبل وقوعه، مرورا بما كانت تتباهى به الحكومة من نجاحات في القضاء على الإرهاب، قبيل وبعد خروج الاحتلال الأمريكي من العراق، وصولا إلى العملية السياسية المتأزمة أصلا، والتي بدأت تأخذ أبعادا جديدة في الصراع والتنافس السياسي لم تكن قائمة من قبل، مثل خطورة استقلال إقليم كردستان العراق بشكل نهائي عن الحكومة المركزية، بعد أن اتسعت الشقة بين الإقليم وبغداد، طبعا لاعتبارات داخلية ولأسباب خارجية لا تقل أهمية.

توقيت عودة أعمال العنف إلى الشارع العراقي، في ظل ما تشهده دول الإقليم من تغييرات جذرية تطال بناها السياسية والفكرية والاجتماعية، تزيد من قلق المتابعين والمراقبين لنشاط تنظيم القاعدة ولفكره الإقصائي. فبعد أن كان أغلب المتابعين يراهنون على اندثار هذا الفكر وتراجع مؤيديه وسط الشباب حين أثبتت الثورات العربية السلمية قدرتها على التغيير، بأقل كلفة وبوقت قصير، عاد فكر القاعدة لينتعش من جديد نتيجة المسارات التي آلت إليها الأحداث في سوريا، حيث روج كثيرون على أنها صراع بين أقلية علوية مدعومة من إيران وحزب الله لأسباب طائفية وبين أكثرية سنية تناضل من أجل دينها وعقيدتها. ثم كان الخطاب العراقي الرسمي الذي اتخذ خطا واضحا في تبني وجهة نظر إيران وحلفائها في المنطقة من الأحداث في سوريا، فأصبحت حكومة المالكي، أرادت ذلك أم لا، متواطئة مع إيران لأسباب طائفية أيضاً، وهذا ما سهل عودة تنظيم القاعدة، وإيجاد حاضنة اجتماعية له داخل المناطق السنية، التي ترى نفسها مهمشة قصدا في عراق ما بعد صدام حسين. ولعل خطورة ما وقعت به الحكومة العراقية أنها مدت تنظيم القاعدة بكل ما يحتاجه من ذرائع، ليعيد إحياء خلاياه وتجديد طروحاته الفكرية في العراق، علما بأن هذه المرة لن يكون مسرح عمليات القاعدة الجغرافيا السياسية للعراق حيث كانت تسعى لتأسيس دولة العراق الإسلامية تمهيدا لإعلان الخلافة الإسلامية، وإنما ستجد في الصراع في سوريا والطرق المعبدة حاليا بين سوريا والعراق ممرا حيويا، وفي الاتجاهين، بين بغداد ودمشق، وهو ما سيسهل للتنظيم التعجيل ببناء دولته التي ستعلن بين سوريا والعراق إذا ما طالت الأزمة السورية ولم تصل إلى حل سياسي.

يقول رئيس مجلس إنقاذ الأنبار الشيخ محمد الهايس إن القاعدة في بلاد الرافدين تعيش حاليا عصرها الذهبي نتيجة ما آلت إليه الأوضاع في العراق والمنطقة، وأن مائتي شخص من القاعدة في الأنبار خرجوا للقتال إلى جانب الجيش الحر في سوريا. وسواء صحت التقارير عن وجود كبير أو قليل للقاعدة في العراق، فإن الحقيقة أنها ليست بتلك الصورة التي يحاول الإعلام المحسوب على النظام السوري تصويرها، كما أنها ليست معدومة الوجود بالمرة كما يحاول الآخرون. ولعل الصواب فيما قاله البنتاجون قبل عدة أيام أن القاعدة في سوريا بعضها قدم من العراق لكنها لا تخرج عن إطار مجموعات صغيرة غير مترابطة فيما بينها ولا تأثير لها كبير على مجرى الأحداث في سوريا. طبعا هذا الآن، لكن في المستقبل من يدري كيف ستكون عليه الحال، إذا ما استمرت الحكومة العراقية في سياساتها الخاطئة تجاه الوضع الداخلي من ناحية وتجاه التعاطي مع الأزمة السورية من ناحية أخرى، فضلا عن الأجندات لدى بعض المتضررين والراغبين في تعميم الفوضى في المنطقة، وهي سياسة ستحرق الجميع بنارها.

لا ينبغي للحكومة العراقية، إذا كانت تريد إنجاح العملية السياسية في العراق، أن تتعاطى مع ملف القاعدة من زاوية أمنية بحتة، وأن تستمر بإلقاء التهم على جهات خليجية بالوقوف وراء تدفق القاعدة، دون النفاذ إلى البعد الفكري لهذه المجموعات وبث الاطمئنان في نفوس سنة العراق لاسيَّما السياسيين منهم حول دورهم في العراق الجديد. لعل اللوم لا يقع على القاعدة لأنها خارجة عن التاريخ والجغرافيا، وإنما على من يريد أن يبني بلدا بيد واحدة