Tony Karon

يبدو أن العقوبات تولّد اقتصاداً مبنياً على العنف حيث تضمن عمليات النهب والسطو والتهريب الاكتفاء الذاتي، وقد اتضح أن العقوبات المفروضة لم تكبح تلك العمليات، فلا يمكن إنكار واقع أن النظام بدأ يضعف، ولكنه يضعف بطريقة تقوي قدرته على الصمود!
اعتادت التقارير الإخبارية على ذكر أن الثورة السورية بدأت منذ 16 أو 17 شهراً، إنها إحدى العبارات النموذجية التي تَرِد ضمن الأنباء اليومية: مرت أيام عدة على معركة حلب وهي تهدد بوقوع أزمة إنسانية هائلة، وأظهرت فيديوهات جديدة الثوار وهم يعدمون سجناء غير مسلحين، وحث الرئيس بشار الأسد قواته على التحرك عبر رسائل خطية ولكنه يرفض الظهور علناًhellip; لكن أصدرت مجموعة إدارة الأزمات الدولية (منظمة مرموقة من المحللين والوسطاء والدبلوماسيين السابقين)، يوم الأربعاء، تقريراً يحث خصوم نظام الأسد، السوريين والدوليين معاً، على التنبه إلى تداعيات هذه الثورة القائمة منذ 17 شهراً. وفق تحليل مجموعة إدارة الأزمات الدولية، لم يصمد نظام الأسد في وجه اعتداء غير مسبوق فحسب، بل إنه لم يعد مشابهاً لنظام الأسد الذي كان قائماً في فبراير 2011، كما أن الثورة التي تواجهه ربما تحولت إلى حركة مختلفة تماماً عن تلك التي أطلقت الانتفاضة في السنة الماضية. نتيجةً لذلك، يحتاج المحللون الذين يريدون إنهاء الأزمة إلى نمط تفكير عاجل يتجاوز معرفة ما إذا كان الأسد سيسقط على طريقة معمر القذافي في ليبيا، أو علي عبدالله صالح في اليمن، أو أي حاكم استبدادي آخر سقط خلال الثورة العربية في السنة الماضية. سيكون مسار سورية مختلفاً جداً.


ذكر تقرير مجموعة إدارة الأزمات الدولية: ربما يتعلق أهم عامل لا يكترث به الكثيرون بالوضع الذي وصل إليه النظام مع مرور الوقت. إن النظام الذي كان قائماً في بداية الصراع ما كان ليصمد غداة مقتل كبار المسؤولين في قلب معقله التقليدي، واندلاع حرب الشوارع في دمشق وحلب وسلسلة من البلدات الأخرى، وفقدان معابر حدودية مهمة مع تركيا والعراق، علماً أن هذه التطورات كلها تحدث وسط تدهور اقتصادي شبه كامل وسخط دبلوماسي عارم. بعد عام ونصف على بدء الصراع، لم ينجح الشكل الجديد الذي اتخذه النظام في تحمّل تلك الضربات فحسب بل إنه تصدى لها بكل زخم، ما يكشف واقعاً جديداً يستحق التحليل.
بدأ نظام الأسد يتحول إلى كيان لا يشبه الأنظمة العادية بل إنه أقرب إلى ميليشيا فئوية عالقة في قتال يزداد وحشية بهدف ضمان صموده الجماعي، وهو يتكل بذلك على الطائفة العلوية التي تعتبر انتصار الثوار خطراً مميتاً يهددها في الصميم. بدأ النظام يتغير بطريقةٍ جعلته يقاوم الانتكاسات السياسية والعسكرية ويتجاهل الضغوط المتزايدة ويعجز عن التفاوض، لا شك أن مكاسب المعارضة ترعب العلويين الذين يصرون على الوقوف في صف النظام، كما أن الانشقاقات تقوّي عزيمة جميع الموالين الصامدين للنظام، ويمكن تجاهل فقدان بعض الأراضي مقابل التركيز على مناطق جغرافية ldquo;مفيدةrdquo;. يبدو أن العقوبات تولّد اقتصاداً مبنياً على العنف حيث تضمن عمليات النهب والسطو والتهريب الاكتفاء الذاتي، وقد اتضح أن العقوبات المفروضة لم تكبح تلك العمليات، فلا يمكن إنكار واقع أن النظام بدأ يضعف، ولكنه يضعف بطريقة تقوي قدرته على الصمود!


من وجهة نظر بعض الثوار، كانت الحملة الثورية في حلب تعكس محاولة لإنشاء ldquo;ملجأ آمنrdquo; من شأنه أن يشمل أكبر مدينة في سورية ومعقلها التجاري وأن يمتد إلى الحدود التركية. كان ذلك الأمر سيساهم في تسهيل نقل الأسلحة من تركيا فضلاً عن توفير قاعدة يمكن أن ينشئ فيها الثوار سلطة سياسية بديلة قد تعترف بها القوى الخارجية كنظام شرعي في سورية، ومن الواضح أن الداعمين الخارجيين كانوا يتمنون تحقيق تلك النتيجة التي تشبه لدرجة معينة ما حصل في ليبيا (حتى إن وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون توقعت في الأسبوع الماضي نشوء ldquo;ملجأ آمنrdquo; قريباً للقوات المعادية للأسد في سورية). في ليبيا، بعد أن سيطر الثوار على مدينة بنغازي الشرقية وأعلنوا نشوء نظام بديل، تدخل حلف الأطلسي لحمايتهم قبل أن يشن حملة جوية هجومية لإسقاط القذافي. لا شك أن نشوء منطقة يسيطر عليها الثوار في سورية سيزيد الضغوط على الحكومات الغربية كي توفر دعماً عسكرياً مباشراً للدفاع عن تلك المنطقة.
حتى الآن، لا تزال تلك النتيجة مستبعدة، فمن المعروف أن الجماعات الثورية العسكرية والسياسية في سورية هي أكثر تنوعاً وانقساماً من الجماعات الليبية، كما أن مدينة حلب تحديداً تبدو منقسمة أكثر من غيرها بين مناصري الثورة وخصومها. كذلك، ترفض شرائح واسعة من الشعب المدني (تحديداً أعضاء الطبقة الوسطى والسكان الأكثر رخاءً والطائفة المسيحية أيضاً) وجود المقاتلين الثوار في المدن حتى لو كانت تعارض الأسد سياسياً.


إذا نجح التفوق العسكري في ضمان تفوق قوات النظام في المعركة الراهنة على حلب، ستترسخ حالة من المراوحة الاستراتيجية: يعجز النظام عن دفع الثوار إلى الاستسلام ولكنه فقد سيطرته على مساحات واسعة من أرياف سورية لمصلحة ثوار يستطيعون القتال على جبهات متعددة ولكنهم يعجزون عن توجيه ضربة قاضية.
يبدو أن تطور حركة الاحتجاج، التي انطلقت في بداية عام 2011 وتحولت إلى حرب أهلية شاملة تضم لاعبين من الولايات المتحدة وتركيا والمملكة العربية السعودية وrdquo;القاعدةrdquo; وروسيا وإيران، أدى إلى تقوية جوهر النظام وزيادة تصميمه على القتال حتى النهاية بدل السعي إلى إنهاء الصراع بأقل أضرار ممكنة. بما أن العلويين يعتبرون أن انتصار الثوار يعني مصيراً قاتماً لهم، هم سيقاتلون لمنع ذلك المصير بدعمٍ ضمني من أقليات أخرى وفصائل اجتماعية تشعر بأنها مهددة في حال انتصار الثوار الذين يشملون إسلاميين يحاربون تحت راية ldquo;الجيش السوري الحرrdquo;.
لا يساهم الفيديو الذي نشره الثوار عن إعدام مجموعة رجال من حلب متهمين بانتهاكات باسم النظام في تبديد تلك المخاوف، كما أن البعد الطائفي الذي يزداد قوة تزامناً مع إطالة مدة الصراع يصب في مصلحة الأسد، ربما أجبرت الثورة النظام على التخلي عن مساحات واسعة من الأراضي وبعض المعابر الحدودية مع سورية، ولكنها عززت بذلك تصميم مناصري الأسد على متابعة القتال.
إذا حصّن النظام نفسه عبر تدابير تقليدية تنمّ عن كفاءة سياسية، فلا شك أن الضغط على روسيا والصين لفرض عقوبات اقتصادية جديدة على النظام سيترافق مع آثار محدودة، كما أن السعي إلى السيطرة عسكرياً يضمن معركة مطولة:
لا يمكن توقع الكثير من نظام لم يعد في موقع يخوّله التنازل أو الرد على الضغوط والحوافز أو اقتراح حل فاعل لأنه لم يكن يوماً دولة مؤسساتية، ولم يعد كياناً سياسياً بمعنى الكلمة. يعني ذلك أن سلسلة التدابير الدولية التقليدية (بدءاً من المسايرة العلنية مروراً بالتنديد والتهديد وصولاً إلى العقوبات) لن تنجح.
إن تجنب وقوع سورية في حرب أهلية بين الأجيال قد يتوقف الآن على قدرة المعارضة السورية على تغيير المعطيات التي تدفع العلويين إلى متابعة القتال لمصلحة الأسد وكأن حياتهم تتوقف على ذلك. سيصعب تغيير المواقف المعلنة بشكل مقنع وفق شروط شاملة نظراً إلى مرارة الصراع حتى الآن والانقسامات السائدة بين مختلف الفرقاء، لكن في ظل غياب أي حل بديل يمنح العلويين ومناصري النظام الآخرين مكانة معينة بعد حقبة الأسد، قد يستمر مشهد القتال الداخلي المأساوي في سورية طوال أشهر أو حتى سنوات.