لبيب قمحاوي

تتصرف حكومة فايز الطراونة بعقلية أستاذ مدرسة ينتمي إلى الحقبة العثمانية، ما تقوله أو تفعله هو الحق وفيما عدا ذلك 'العصا لمن عصى'. التلويح بالتهديد اللفظي انتقل وبسرعة إلى خطوات عملية أقل ما يمكن وصفها به أنها خطوات عرفية تعكس غياب أي حساسية من قبل حكومة الطراونة تجاه المزاج الوطني العام، ورغبة أكيدة لديها في التعامل مع مختلف القضايا بمنطق 'العصا لمن عصى' وكأن هذه الحكومة باقية إلى الأبد ناسيةً أو متناسية الحكمة العظيمة القائلة 'لو دامت لغيرك لما وصلت إليك'.
تُعتبر حكومة الطراونة مثالاً على الأذى الذي يمكن أن تسببه قوى الشد العكسي للاستقرار السياسي العام في البلد. فهذه القوى، وحكومة الطراونة جزء منها، تعتبر نفسها وبدون وجه حق، الممثل الوحيد لمصلحة النظام والبلد وتعتبر أن موقفها من كافة القضايا هو الموقف الصحيح الذي يتوجب على الجميع إتباعه.
ومن هذا المنطلق تَعْتَــــبر حكــــومة الطراونة أن الحراك الشعبي ومطالب الإصلاح هي فقاعة هواء يمكن تجاوزها والسباحة من فوقها دون أي خوف من ردود فعل مؤثرة، انطلاقاً من الفرضية الواهمة بأن من لا يؤذي فهو غير موجود!! كلام غريب يعكس عقلية منغلقة قد عفا عليها الزمن.
هذه العقلية دفعت بأصحابها لاتخاذ جملة من القرارات ابتدأت بِسَن قانون الصـوت الـواحد في أسـوأ صـورة ممـكنة، بالـرغم من بعـض الملطفات التـي جاءت من خلال زيادة عدد مقاعد القائمة الوطنية. وبذلك مارست حكومة الطراونة السحر الذي أدى إلى إحياء الميت، بالرغم من أن جميع القوى ابتداء من رأس النظام ملك البلاد ومروراً برئيس الحكومة السابق ورئيس مجلس الأعيان ومجلس النواب ولجنة الحوار الوطني التي كفل الملك شخصياً مخرجاتها، قد أعلنوا جميعاً وفاة مبدأ 'الصوت الواحد'.
ماذا جرى؟ وهل ما جرى ويجري سيؤدي بالنتيجة إلى انقلاب السحر على الساحر؟
تخوض حكومة الطراونة الآن معارك لفرض إرادتها عوضاً عن الاستجابة الايجابية لإجماع شعبي عام على رفض مبدأ الصوت الواحد. بمعنى آخر فإن حكومة الطراونة أبدت استعداداً ملحوظاً لخوض المعارك من أجل فرض إرادتها الخاطئة على الجميع عوضاً عن بذل أي جهد، ناهيك عن أي جهد حقيقي، لإدارة حوار وطني فعال يهدف إلى ايجاد قواسم مشتركة تؤدي إلى تخفيف الاحتقان السياسي والاقتصادي في البلد.
منطق عجيب لنهج أعجب. لماذا اللجوء إلى الحل الأسوأ وإلى الخيار الصدامي مع قوى عريضة في الشارع الأردني؟ هل الهدف هو الانقلاب على مسيرة الإصلاح؟ ولماذا لا يتم الإعلان عن ذلك صراحة؟ ولماذا يتم العمل على تكميم أفواه الأردنيين عوضاً عن تلبية مطالبهم العادلة والسلمية المنادية بالإصلاح ومحاربة الفساد؟ لماذا يتم تهديدهم بشكل مستمر من قبل رئيس الحكومة الحالي تارة باعتبار الدعوة إلى مقاطعة التسجيل للانتخابات إجراءً معادياً للدستور ويستوجب العقاب، وتارة أخرى بالتلويح بإعلان حالة الطوارئ. وقبل ذلك كله لماذا يتم اختيار رئيس حكومة غير إصلاحي، إن لم يكن معادياً للإصلاح، لقيادة أهم مرحلة في عملية الإصلاح السياسي وهي تمرير قانون الانتخاب والتحضير لإجراء انتخابات نزيهة؟ ولماذا يتم إغلاق قناة فضائية لأنها بثت مقابلة صريحة وجريئة ويتم استدعاء من شاركوا في تلك المقابلة من قبل الإدعاء العام وتوجيه مختلف التهم العجيبة والغــــريبة إليهم ومنــــها تهمة 'تقــويض نظام الحكم'؟ هل من المعقول أن تؤدي مقابلة وحوار تلفزيوني إلى تقويض نظام الحكم في أي بلد؟

الإجابات قد تبدو بسيطة على السطح ولكنها معقدة في الحقيقة. الحكم في الأردن يريد إنهاء حقبة الإصلاح وما تمخض عنها من مكاسب هامشية دون الإعلان عن ذلك. بل على العكس، الحكم يريد أن يتشدق طوال الوقت بمنجزاته الباهرة وإصلاحاته العظيمة ، بينما يقوم في الواقع بالإجهاز، وبقوة القانون، على حركة الإصلاح وعلى الإصلاحيين في الوقت الذي تسعى فيه هذه الحكومة العجيبة للعودة بالأمور إلى حقبة ما قبل الإصلاح. وهذا يدعو إلى التساؤل المنطقي عن الأسباب وراء إصرار قوى الشد العكسي على اعتبار نفسها صاحبة البلد والوصية عليه حصراً. وانطلاقاً من ذلك فهي تعتبر المعارضة شيئاً مارقاً وعارضاً ومطالبها الإصلاحية غير محقة ومضادة لمصلحة البلد.
دعونا نعيد تفسير الأمور بشكل أوضح، وبالتالي نضع الأمور في نصابها. قوى الشد العكسي هي في الحقيقة المعارضة كونها الأقلية، وما يسمى بالمعارضة من وجهة نظر قوى الشد العكسي هي ، في الواقع، الأغلبية وهي تمثل الضمير الوطني.
لقد وصل الغرور بحكومة الطراونة إلى حد اعتبار نقدها أو نقد سياساتها ونهجها تعدياً على هيئة رسمية تستوجب تدخل الادعاء العام وتوجيهه تهمة ذم هيئة رسمية لمن تريد ومتى تريد. القانون الأردني لا يحمي إلا الملك ولا يحمي رئيس الوزراء أو الحكومة من النقد، ومن المطالبة بإسقاطها أو تغييرها. والحكومات في كل الأنظمة الديمقراطية تسمع نقد الشعب وتقريعه يومياً، ولا يوجد نظام على وجه الأرض يحمي أي حكومة من النقد أو من المطالبة بإسقاطها أو تغييرها.

إسقاط حكومة فايز الطراونة أصبح مطلباً شعبياً هاماً وملحاً، وكذلك إسقاط كامل نهج معاداة الإصلاح والديمقراطية وشطبه من الأجندة السياسية الأردنية.
كما يتوجب اعتبار هذه الحكومة حكومة مارقة ونهجها السياسي وأسلوب تعاملها مع المواطنين مصدر خطر على النظام وقاعدته الجماهيرية، نظراً لما يشكله نهجها من إخلال بالسلم الاجتماعي والإساءة إلى الوحدة الوطنية. وحكومة الطراونة التي فشلت في كل شيء تقريباً، نجحت، مثلاً، في اعتقال الدوار الرابع ووضعه خلف القضبان الحديدية في زمن قياسي، مع أنه أحد رئات التعبير السلمي في الأردن. وتصرفت الحكومة وكأن هذا الموقع هو ملك لها مع أنه ملكية عامة للشعب، فالحكومة في خدمة الشعب وليس العكس.
إن لجوء أي حكومة إلى أساليب التهديد والوعيد والابتزاز، والتلويح بإمكانية فرض الأحكام العرفية، والتقدم بمشروع قانون للمطبوعات يقضي على الحريات الإعلامية بهدف تكميم الأفواه، لن يؤدي إلى أي نتيجة سوى زيادة الاحتقان داخل المجتمع الأردني.

إن غياب أي حماس شعبي للتسجيل للانتخابات، كما تؤكده الأرقام الرسمية المعلنة، لا يعود إلى عدم مبالاة الشعب، بقدر ما يعكس غضب الشعب بكافة فئاته ورفضه لسياسات وأساليب ونهج حكومة الطراونة. الشعب يعبر عن نفسه بأساليب مختلفة ووسائل متعددة. والشعب الأردني الذي تميز عن غيره من الشعوب المجاورة بسلمية حراكه يتعرض الآن إلى هجمة شرسة من حكومة الطراونة قد تعصف، في ما لو تفاقمت، بسلمية هذا الحراك. إن النظر إلى الشعب بفوقية والتعامل معه بعقلية عرفية واستعداءه في معظم القرارات الصادرة عن الحكومة ليست من سمات الحكم الرشيد ولا تمت له بصلة. وإن بقاء الحكومة الحالية في السلطة يشكل تحدياً لرغبة الشعب وطموحاته في الإصلاح السلمي.