يوسف عبدا لله مكي


رفضت quot;حماسquot; وحدة القطاع مع الضفة يوم لم يكن لها حلفاء في مصر، وقبل الإعلان عن تحقيق quot;نصر مؤزرquot;. فكيف يمكن أن تقبل بذلك الآن، وقد أصبح بحوزتها أوراق ضغط كثيرة على سلطة quot;أبو مازنquot;

بعد ثمانية وأربعين عاما، على تنفيذ حركة التحرير الوطني الفلسطيني quot;فتحquot; أول عملية عسكرية، ضد الكيان الصهيوني، أين تقف القضية الفلسطينية، هل اقترب الفلسطينيون، بعد نيلهم عضوية ناقصة بالأمم المتحدة، من تحقيق هدفهم في التحرير والاستقلال، وما آفاق النضال الفلسطيني؟ أسئلة جوهرية، في الجواب عليها يكمن تقدير حصاد الخمسة عقود، من عمر حركة فتح، التي قادت الكفاح الفلسطيني المعاصر.
منذ انطلاقة الرصاصة الأولى لحركة فتح، عبر النضال الفلسطيني محطات عدة، ابتدأت بتوافق عربي وفلسطيني، على رفض مشروعية وجود الكيان الغاصب، والالتزام بالتحرير الكامل لفلسطين. ولما يقرب من عقدين كاملين مثل اللاجئون بالمخيمات في سورية والأردن ولبنان العمود الفقري للثورة الفلسطينية. ولم يكن للفلسطينيين بالداخل خلال المرحلة الأولى من نضال فتح دور رئيسي في كفاحها. وذلك ما يفسر تمسك الحركة بتلك المرحلة بالتحرير الكامل لفلسطين، وبحق العودة.
إثر حرب يونيو عام 1967م واحتلال الصهاينة للضفة والقطاع تبدل المشهد السياسي الفلسطيني، ناقلا مركز جاذبية الصراع مع الصهاينة من الشتات بالأقطار العربية المجاورة إلى الأراضي المحتلة. وتمثل ذلك في نهوض شعبي عارم في منتصف السبعينيات في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي. ومع تصاعد الكفاح الفلسطيني بالضفة الغربية وقطاع غزة، وهزيمة الفلسطينيين بالأردن، وهشاشة وضع المقاومة في لبنان وسورية، حدث تغير حاد في أهداف النضال الفلسطيني وسبل تحقيقها. وفي هذا السياق، أقرت اجتماعات المجلس الوطني الفلسطيني في دورته الثامنة العمل على إقامة سلطة فلسطينية بالأراضي التي ينسحب منها العدو، عن طريق الكفاح المسلح أو بالمفاوضات والحلول السلمية. وفي حقبة السبعينيات من القرن المنصرم زاوج القادة الفلسطينيون بين حمل السلاح والنضال السياسي للتوصل إلى حل سلمي للصراع مع الكيان الغاصب.
وهكذا أدى انتقال مركز الجاذبية في النضال الفلسطيني للأراضي المحتلة، إلى تغيير في أهدافه واستراتيجياته، تحددت لاحقا في النضال من أجل إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على جزء من فلسطين، وليس على كل فلسطين التاريخية، وتحديدا على أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة، وليس بالضرورة عن طريق الكفاح المسلح بل عن طريق الحلول السياسية، وذلك هو الذي طغى لاحقا بالأدبيات الفلسطينية.
إن هذا التحول الجذري في الأهداف والوسائل، حمل معنى متضمنا، ما لبث أن تم الإفصاح عنه لاحقا، هو الاعتراف بوجود دولتين مستقلتين على أرض فلسطين التاريخيةquot; دولة إسرائيل، في الحدود التي قامت عليها منذ تأسيسها عام 1948 حتى نكسة يونيو 1967، ودولة فلسطينية على أراضي الضفة والقطاع.
الانتقال في الأهداف والاستراتيجيات في محطته الأخيرة التي تمثلت في اتفاقية أوسلو، رغم صخب الشعارات التي رافقت توقيع الاتفاق، عنى ضمن أشياء كثيرة التنازل عن حقوق قانونية أقرتها هيئة الأمم المتحدة، وأهمها قرار تقسيم فلسطين رقم 181 في فبراير1947 الذي قسم فلسطين مناصفة بين اليهود والسكان الأصليين. وهو قرار رفضه العرب، لأسباب عدة أهمها أن فلسطين، بحدودها التاريخية، هي أرض عربية ليس من حق أحد التفريط فيها. ولأن القرار لم يضع في الحسبان النسبة والتناسب بين أعداد السكان الأصليين والمهاجرين الجدد الذين سطوا على الأرض.
وعنى اتفاق أوسلو أيضا أن القيادة الفلسطينية منحت لنفسها حقوقا لم يمنحها لها الفلسطينيون بالشتات، هي التنازل عن أراضيهم التي سطا عليها الصهاينة عام 1948 بما يلغي حق العودة، حتى مع عدم النص على ذلك بالوثائق الموقعة. لقد تغيرت طبيعة المواجهة مع العدو من صراع وجود إلى صراع على مناطق متنازع عليها بين quot;شعبينquot;. وجرد الكفاح الفلسطيني من أبعاده التاريخية والحضارية. وبهذا الاتفاق أيضا حرم الفلسطينيون من حقي الدفاع عن النفس وتقرير المصير.
والنتيجة المنطقية للانتقال في الأهداف والاستراتيجيات هي إلغاء كل المواد التي نص عليها الميثاق الوطني الفلسطيني، وبشكل خاص ما يؤكد على تحرير فلسطين من النهر إلى البحر، وحق الفلسطينيين بالشتات في العودة إلى ديارهم، وقبول منظمة التحرير بالعمل على إقامة دويلة فلسطينية على أقل من عشرين في المائة من فلسطين التاريخية.
قد صدق إعلان الاستقلال الصادر عن المجلس الوطني الفلسطيني في الجزائر عام 1988، على هذا الانتقال. ووافقت أغلبية أعضاء المجلس الوطني على مشروع quot;الدولةquot; على أي جزء يتم تحريره من فلسطين باعتباره هدفا quot;مرحلياquot; تكون الدولة فيه quot;لاستكمال مشروع الثورة والتحرير والعودةquot;. وليس من شك في أن العبارة الأخيرة هي من باب ذر الرماد بالعيون، ذلك أن التناقض واضح وصريح بين الاعتراف بمشروعية وجود الكيان الصهيوني والتنسيق الأمني معه، وبين اعتبار قيام الدويلة الفلسطينية بالضفة والقطاع خطوة على طريق التحرير الشامل لفلسطين التاريخية.
في غمرة انشغال قيادة منظمة التحرير بإقناع المجتمع الدولي بالاعتراف بدولة فلسطينية مستقلة، بالضفة والقطاع، استولى الصهاينة على أكثر من 53 في المائة من أراضي الضفة والقطاع، في صيغة مستوطنات وجدران عازلة ومعابر، ولم يتبق ما يمكن للفلسطينيين التفاوض بشأنه سوى 47 في المائة، يواصل الصهاينة بشكل حثيث بناء المستوطنات الصهيونية فوقها، بحيث لا يبقى في نهاية المطاف ما يمكن التفاوض عليه.
في السنوات الأخيرة، وبعد صراع مرير بين فتح وحماس، قامت حماس بفصل قطاع غزة عن الضفة الغربية، واستمرت الحكومة المقالة بقيادة السيد إسماعيل بقيادة السلطة في القطاع. ولتكون النتيجة وجود سلطتين فلسطينيتين على أراض هي بحكم القانون الدولي أراض محتلة. برغم ما يقال عن مفاوضات بهدف تحقيق وحدة الشطرين فإن جميع المؤشرات تشير إلى استحالة ذلك. لقد رفضت حركة حماس وحدة القطاع مع الضفة يوم لم يكن لها حلفاء في مصر، وقبل الإعلان عن تحقيق quot;نصر مؤزرquot; على العدو. فكيف يمكن أن تقبل بذلك الآن، وقد أصبح بحوزتها أوراق ضغط كثيرة على سلطة quot;أبو مازنquot;، ليس أقلها قبول الصهاينة لها شريكا في التسويات الأمنية، وتوقيعهم اتفاقية هدنة معها.
هل نحن أمام تحول تاريخي يؤمن استرداد الحقوق الثابتة للفلسطينيين، أم أن ما بني على باطل سيكرس استمرار النماذج البائسة التي عجزت عن تحقيق الحلم الفلسطيني في التحرير والعودة؟ هذه أسئلة وفي الجواب يكمن الأمل في الخروج من النفق، وإعادة الاعتبار لقضية الشعب المظلوم.