محمد خليفة

من المؤسف حقاً أن يتوارث الإنسان أبشع ما يتحاشاه ذوو الضمائر الحية، فقد توارث البعض ركاماً بشعاً من القيم المدمرة التي أدّت إلى عسكرة عقله، فهو في قراراته داخل أسرته السيد الأوحد الذي لا تُرد كلمته، ولا تُراجع قراراته مهما كانت، وهو كمسؤول يبطش بمن دونه، في حين تراه مهيض الجناح أمام رؤسائه، أما إذا تسلط على رقاب العباد، استأسد وتوحش وتكونت لديه الرغبة في صناعة الموت، وتكريس العنف، والاستهانة بدماء الأبرياء العُزّل، حتى شاعت ثقافة الموت والقتل، فأصبح هذا الكائن المفعم بالضغائن، المدجج بقسوة الملتاثين والمجانين وذوي العاهات الأيديولوجية والقلوب الميتة .

إنّ ما نشاهده كل يوم على شاشات الفضائيات من انفجار السيارات المفخخة، أمر مروّع ومخيف، حيث تتناثر أشلاء الأجساد في بعض المدن العربية المضطربة، والشعب يذوق الألم، والفقر، واليتم، والبؤس، والضنك والشقاء . وأضحت كرامة أفراده تُدَاس بالنعال، وباتت مفردات حياته ما هي إلا التفرقة، والقتل، والعنصرية . فكيف نشأت هذه الآفات التي خلّفت الفساد وهو قرين الاستبداد؟ وإنه من العجب كيف نبتت وترعرعت في الأوطان العربية طبقة انتهازية حصّنت نفسها بالفكر التكفيري المتطرف بدعوى الإصلاح حتى تفشّى القتل على الهوية والمذهب، ما أدى إلى غرق الأوطان في الشجن والحزن . لقد أصبحت الأجساد تتساقط كأوراق شجر تقصفها رياح الخريف المغبرة، ويتشابك صوتها مع نعيق البنادق التي تحصد الأرواح بلا هوادة أو شفقة، وتعلو الأرواح كالياسمين على أكف الرياح، والموت يطوي الأجساد المُشبعة بالدخان في منعطفات العنف وضراوة الصراعات، وحروب الهويات الدينية، التي تحركها منابع الجهل والتخلف من طائفية وشوفينية ترفض التعايش مع الآخر المختلف .

إن مشروع العقل السلطوي في العسكرتاتية العربية دفع الأوطان العربية نحو أعاصير هوجاء لاتُبقي ولا تذر إلا ركاماً من الأشلاء، لا يُسمع في هذه الأوطان إلا صوت البنادق والقنابل، ومشاهد العنف في صراع قاسٍ بين القاتل والقتيل، وبين الفوضى الملتبسة بين الوعي واللاوعي، وحالات القلق، إلى حكاية ألم في ميدان الأحزان، ونعيق الانسحاق في خرافة الوجع، وصهيل الفاجعة الحياتية والمأساة، والتوق الجنوني للانتقام، والمشاعر المتضاربة في حالة وجودية تعكس جدلية الموت والحياة، إنه خيط النار الذي يخترق الأوطان العربية بوصفه إحدى التراجيديات الكبرى التي صنعت هذا العنف والكراهية في التراث العربي على مر العصور: الألم، الموت، العنف، الكراهية، الحقد وكل المعاني الكريهة التي تنتج عن خطاب العنف الديني والاجتماعي على اختلاف سماته، بحيث يصبح الموت حالة طبيعية محفوفة بحقول الألغام .

اليوم شعوب دول الربيع العربي في تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا تطلق صيحات منادية بالإصلاحات الضرورية ومكافحة الفساد، وتطالب بترسانة من التشريعات التي تحمي الحقوق، وتصون الحريات، وتنظم العلاقات، ولكنها تجاهلت أن هذا الشعب ينقصه رغيف الخبز ولقمة العيش، التي أخذت في الازدياد بمرور الزمن من خلال معايشة التقلبات الحياتية، والوعي المُغيّب، حتى أصبح الفقر كمرض العصاب الخيلائي (الماراشيزوفرينيا) من حيث الدلالات الفلسفية والدلالات النفسية والطقوسية، في أحلام ملجومة ومفتوحة على جمر الحاجة، وسهاد التائهين في الفيافي والقفار، في فجر ليس له ظلام، لا يخفيه إلا التخلف واحتقاب الإشارات التاريخية والأسطورية في غيم من الاحتراق والرماد والموت .

هذه التراجيديا السالبة في مرارة اليأس الممتدة فوق ساحات الحلم، ومرارة الاستلاب والمِحن الطاغية التي أدخلت الأوطان العربية في أنفاق مظلمة، وذلك من خلال تفكير أولئك المتخبطين في الظلام أصحاب الفكر المُتشرعِن والأصولية المتشددة والأكثر انتشاراً في سياسات دول الثورات بعد سقوط رؤسائها، وهو منهج الإخوان المسلمين الذين يتصرفون كمرجع فقهي وفقاً لمعايير بعيدة عن الإسلام وعقيدته السمحة، وخاصة حين يدعون إلى ما يسمى الجهاد في بلاد العرب والمسلمين، والتفكير في إقامة خلافة راشدة، وإعادة المجتمع الإسلامي لما كان عليه أيام الخلفاء الراشدين، إلا أن واقع هذا العصر، وعالمية الإسلام كدين تجعل هذا الحلم مستبعداً، لما يحويه هذا العصر من مستجدات، ومتغيرات معقدة، ما يجعل الحكماء والعقلاء يرون في جامعة الدول العربية إن فُعّلت، ومنظمة المؤتمر الإسلامي إن طُورت، بدائل حديثة لفكرة التعاون بين البلدان العربية، تتناسب والأحلاف الدولية الحديثة .

إنّ الأمم الكبرى تتنافس تنافساً شديداً لامتلاك ناصية العلم، وتحقيق التقدم التكنولوجي الذي حقق ولا شك قفزات نوعية في مجال البيولوجيا والفيزياء وبقية العلوم الطبيعية في علم بنية الكون (الكوسمولوجيا)، وهو المخاض للعولمة الكبرى التي هي آتية لا ريب فيها، في حين يتقاتل المسلمون على أمور- فرعية - لن تزيدهم تقدماً بأي حال، بل ستؤدي إلى حروب أهلية لن تتوقف وقد تكون مثل حرب المئة عام التي مرت بها أوروبا بعد الإصلاح الديني مطلع القرن السادس عشر الميلادي، حيث لم تتوقف الحروب بين الإصلاحيين البروتستانت وبين المحافظين الكاثوليك إلا بعد صلح وستافيا عام ،1638 والذي أنهى ذلك الصراع الطويل والعقيم، الذي استنزف قدرات أوروبا البشرية والمادية، ولم يفضِ إلى نتيجة .

ونحن اليوم في هذه الأمة ربما ندخل في صراع من هذا النوع، صراع بين من يرى أن الإسلام هو الحل، وبين من يرى أن الحل في العلمنة الكاملة للمجتمعات العربية، والأخذ بأسباب العلم والتطور، وهو صراع خفيّ وإن ظهر محتدماً أحياناً على شاشات الفضائيات، وعلى صفحات المجلات والصحف، نتمنى أن يظل صراعاً فكرياً، لايتعداه إلى سواه .