محمود عبدالرحيم

لم يكن العام الماضي سوى الأصعب والأطول والأكثر وطأة على جموع المصريين، وبدا كما لو كان كابوساً مزعجاً يود الجميع أن يستيقظ على زواله سريعاً، بعد أن بات يهدد حاضرهم ومستقبلهم، ويمس هوية مصر المنفتحة والمتسامحة التي لا تقبل التشدد والانغلاق . وبدا أن مصر تحت ldquo;حكم الإخوانrdquo; مختطفة حضارياً، ومرتهنة لمشروع يريد أن يدمر بنيتها الثقافية والمؤسسية المدنية الحديثة، مقابل أوهام السيطرة والتمكين، وrdquo;أستاذية العالمrdquo; وrdquo;الخلافةrdquo; أو بالأحرى ldquo;الأممية الإسلاميةrdquo;، تلك الأفكار التي عفى عليها الزمن، والتي لا تنسجم مع مقتضيات الواقع، ومعطيات العصر الحديث، ومعادلات القوى في العالم .

لعل ما استفز أغلبية الشعب، وجعلها تثور على ldquo;الجماعة المحظورةrdquo; التي لطالما ادعت الاضطهاد لسنوات بعيدة، والزهد والعمل لمصلحة الوطن والدين، رافعة شعارات مضللة تخلط الدين بالسياسة مثل ldquo;الإسلام هو الحلrdquo;، هو اكتشاف مدى جشعها السلطوي، وغياب مشروع للتغيير أو الإصلاح، المترافق مع فشلها على الأصعدة السياسية والاقتصادية والأمنية كافة، وسط تقديم مصالحها الضيقة على مصلحة الوطن والمواطن، وسعيها الحثيث منذ أول لحظة تمكنت فيها من الإمساك بالسلطة حتى النهاية، في الهيمنة على كل مؤسسات الدولة وزرع عناصرها وحدهم في كل مفاصلها، فيما عرف بrdquo;مشروع الأخونةrdquo;، وسط تهميش كل القوى والكفاءات، فيما عدا أبناء ذات الفصيل من اليمين الديني، مع توجيه ضربات قوية للمؤسسات التي تستعصي على التطويع كالإعلام والقضاء والثقافة، وهو ما تجسد في إنهاء عمل كل القيادات الثقافية التي لا تنسجم مع ldquo;مشروع الإخوانrdquo;، وتجاهل اعتصام المثقفين وسخرية وزير ثقافة الإخوان القادم لهدم بنية الثقافة المصرية، من قامات ثقافية بارزة محلياً ودولياً، وقبلها حصار مدينة الإنتاج الإعلامي، وملاحقة الإعلاميين قضائياً، والتلويح بغلق القنوات الإعلامية الخاصة التي تفضح فشل الأداء، وانتهاكات الإخوان، إلى جانب حصار مجلس الدولة وإرهاب القضاة عند النظر في قضايا تمس المؤسسات التي استولوا عليها بالتحايل، وبشكل غير قانوني ولا دستوري، فضلاً عن حصار المحكمة الدستورية العليا، وتعطيل عملها لمنع حل الجمعية التأسيسية للدستور غير التوافقية، ومجلس الشورى المشكوك في شرعيته القانونية، على غرار مجلس الشعب المنحل، مع سلسلة من الهجوم الإعلامي الممنهج على القضاة، والنص في ldquo;الدستور الإخوانيrdquo; على تقليص عدد القضاة الدستوريين للتخلص من المناوئين للإخوان، والسعي لتمرير قانون مشبوه للسلطة القضائية لإزاحة عديد من القضاة، والتدخل في شؤون السلطة القضائية بشكل سافر، وفي أعمال النيابة العامة لمصلحة أنصارها وضد خصومها السياسيين، خاصة بعد عزل النائب العام بشكل غير قانوني، وتعيين نائب عام من الموالين للإخوان .

إضافة إلى حملات تصفية معنوية لكل معارضيها بالاتهام بالعمالة والتآمر على النظام الحاكم وعلى البلاد، واستهداف كوادر المعارضة الشابة، في محاولة لإرهاب المثقفين والنشطاء وتكميم الأفواه، وفرض أمر واقع بالقوة، وعدم مراعاة الظرف التاريخي غير المواتي، وأن هذه الآليات لم تعد تصلح كما كانت في السابق، بعد سقوط جدار الخوف مع انتفاضة يناير الشعبية، وبعد أن عرف المصريون طريق الاحتجاج والرفض، دفاعاً عن حقوقهم وحرياتهم، وضد إعادة إنتاج نظام الفساد والاستبداد .

والمثير للدهشة، أنه في الوقت الذي كانت قيادات جماعة الإخوان، سواء من كان في مناصب رسمية أو غيرها، تفتح النار على نظام الرئيس المخلوع مبارك ليل نهار، ثم يقومون بالسير على نهجه، في الرهان على واشنطن، وتقديم فروض الولاء والطاعة، والتمسك بالتطبيع مع الكيان الصهيوني ولعب دور حارس أمنه، واللجوء إلى صندوق النقد الدولي والخضوع لشروطه التي تعمل على تكريس سياسات التبعية والإفقار للشعوب، مع تجاهل معاناة الجماهير، والحديث عن إنجازات لا وجود لها على الأرض، وتحميل المعارضة والشعب ذاته مسؤولية تدهور الأوضاع المعيشية، ونسبتها للتظاهرات التي ليست إلا رد فعل، وليس الفعل ذاته المتمثل في الفشل الإداري، والتركيز، فحسب، على إنجاز ldquo;مشروع التمكينrdquo; لضمان البقاء في السلطة مدة لا تقل عن السنوات الثلاثين التي قضاها مبارك، بحسب تصريحاتهم المتواترة التي يُفهم من فحواها هذا المخطط .

وفيما ينتقدون خروج المعارضين للاحتجاج، لا يجدون غضاضة من تنظيم مسيرات وتظاهرات دعما لسلطتهم، بشكل غير مبرر وبإسراف، من دون أن يعتبروا ما يقومون به غير موجود في الأعراف الديمقراطية، وإنما في الأنظمة الاستبدادية التي تحاصر المعارضة، وتحبط رفع صوتها بالاعتراض، بحجة وجود مؤيدين لهم الغلبة، في مواجهة معارضين غير مؤثرين، ودون أن يوصفوا ما يقومون به بذات الصفات التي تُطلق على تحركات المعارضة من تعطيل للإنتاج والمرور، وتهديد للأمن والاستقرار .

وفيما يرى أغلبية المصريين البذخ الحكومي والإسراف في الإنفاق على رحلات الرئيس وحكومته وتنقلاتهم في الداخل والخارج، والمرتبات الخيالية والسيارات الفارهة التي يتم استخدامها خارج نطاق العمل، ومع كوادر الإخوان في مجالس نيابية تم حلها كمجلس الشعب، يطالبون الناس باستعلاء، بالتقشف، والانتظار، وكما صبروا على مبارك وحكوماته من قبل لماذا لا يصبرون الآن أيضاً؟

غير أن الجماهير بدأت تلمس أن أوضاعها تسوء أكثر من أيام الرئيس المخلوع مبارك، خاصة بعد انهيار الاحتياطي النقدي، وتورط النظام في الاستدانة من الخارج من دون سقف وبفائدة مرتفعة، وهو ما انعكس على سوء الخدمات الأساسية كالكهرباء والوقود، سواء البنزين أو السولار أو غاز البوتاغاز، والوصول إلى حالة شح دائم، مع ارتفاع جنوني في الأسعار وزيادة التضخم وانخفاض القيمة الشرائية للجنيه المصري، وزيادة الأعباء الضرائبية، أضف إلى ذلك غياب الأمن واتساع معدلات الجريمة، وزيادة أعداد البطالة، خاصة مع إغلاق آلاف المصانع وتوقف الحركة السياحية، ما حول حياة الأغلبية لجحيم يومي غير محتمل، للدرجة التي دفعت البعض إلى التحسر على النظام السابق الموصوف بالفساد والاستبداد، كتعبير عن السخط والإحباط، أكثر منه حنيناً للماضي، أو ندماً على خلع هذا النظام .

الأخطر من هذا، كان حالة الانقسام الواسع في المجتمع وحالة الاحتقان غير المسبوقة في تاريخ مصر التي تجاوزت الإعلام والشارع السياسي ووصلت إلى زملاء العمل، وإلى الأشقاء في ذات البيت الواحد، والتي بدأت مبكراً منذ ldquo;التعديلات الدستوريةrdquo; وrdquo;استفتاء مارس 2011rdquo;، الذي جرى فيه تقسيم المصريين إلى كفرة ومؤمنين، أنصار الشريعة وأعداء الإسلام، وجرى استخدام سلاح الدين بعنف في مواجهة أية أصوات معارضة،

واللجوء إلى التكفير والتخوين لكل من يطرح أي توجه لا يخدم مصالح التيار الديني بقيادة الإخوان، مع توظيف الدعاة السلفيين وقيادات الجماعات الدينية المرتبطة بالجماعة المحظورة لدعم هذا التوجه، سواء على شاشات التلفزيون الرسمي الذي بات بقنواته العديدة هو وعشرات الصحف، تحت قبضتهم إلى جانب عشرات القنوات الخاصة، ومنابر المساجد .

ويتم استدعاء هذا الخطاب المثير للفتن والقلاقل في كل خطوة تستدعي فرض أمر واقع أو تمرير مشاريع مشبوهة وإقصاء المعارضين، كما حدث في معركة فرض ldquo;الجمعية التأسيسية الإخوانية السلفيةrdquo; وrdquo;الدستور الإخواني السلفيrdquo; الذي ينظر إليه الكثيرون على أنه دستور طائفي لا يعبر إلا عن مصالح وتوجهات تيار بعينه فقط، وبينهما كانت القرارات الإدارية المسماة خطأ بrdquo;الإعلان الدستوريrdquo; الذي أعطى فيها مرسي لنفسه سلطة تأسيسية غير شرعية، وحصن فيها قراراته والمؤسسات المشكوك في وضعها القانوني كالجمعية التأسيسية ومجلس الشورى، والتخلص من نائب عام محسوب على النظام القديم، والإتيان بنائب عام موال لتياره والتي كانت البداية السافرة لعودة الاستبداد لمصر مجدداً، والتي أزعجت المصريين بشدة ودفعتهم بالملايين للشوارع، وعمقت الانقسام الحاد في المجتمع، حتى جرى الوصول إلى معركة بقاء مرسي في الحكم، بعد رفضه الانصياع لمطالب المعارضة بتغيير حكومي وتعديل الدستور والنائب العام، إلى أن أصبحت إزاحة مرسي ونظام جماعته من الحكم مطلباً شعبياً، خاصة بعد استعلائه على الشعب وتحديه للإرادة الشعبية باسم ldquo;شرعية الصندوقrdquo;، ورفض الاستفتاء على شرعية وجوده، أو إجراء انتخابات رئاسية مبكرة، والاستقواء بالخارج، وبالجماعات الدينية ذات التاريخ الإرهابي، وتهديد جموع الرافضين، بحرب أهلية وسفك الدماء، دفاعاً عن شرعية نزعها الشعب عنه، خاصة بعد الفشل الملموس والتدهور المستمر والأخطار المحدقة بالبلاد، فضلاً عن سلسلة من الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان من تعذيب وقتل للمحتجين على يد أنصاره، ووسط حماية وغطاء سياسي من الرئيس الإخواني وحكومته .

وإن كانت أغلبية الشعب تذكر هذا العام، مصحوباً بالندم من جانب من صدقوا شعارات الإخوان، أو أعطوهم دعمهم يوماً، ويذكرون رئيساً ضحى بمصالح الشعب من أجل مصلحة الجماعة التي يحكم مكتب إرشادها البلاد من وراء الستار، حتى بات الجميع يصفون مرسي بأنه ldquo;مندوب الجماعة في الرئاسةrdquo;، ويسخرون منه ومن خطاباته المطولة المملة المكررة التي تخصم من رصيده الجماهيري، وتجعله محل تندر الجميع، دون أن يلتفت للكارثة التي يجر إليها البلاد، والخطر الداهم الذي وصل إلى تهديد الأمن الوطني المصري بقوة، المتمثل في محاولة تمرير قوانين مشبوهة كrdquo;الصكوكrdquo; وrdquo;محور قناة السويسrdquo; الذي كان يستهدف رهن الإرادة المصرية ومقدرات الشعب للخارج، على غرار ما حدث إبان حقبة الخديو إسماعيل، علاوة على حالة الضعف السياسي وغياب الرؤية الاستراتيجية، ما دفع دولة بحجم إثيوبيا أن تتجرأ على فرض أمر واقع على مصر الدولة الأكبر عربياً وإفريقيا، بالشروع في بناء ldquo;سد النهضةrdquo; المهدد للأمن المائي المصري، مع التساهل في حدود مصر الجنوبية في ظل تصريحات فُهم منها إمكانية التنازل عن مثلث حلايب وشلاتين الحدودي للسودان، وسط فراغ أمني في سيناء، وإطلاق يد الجماعات الدينية المتطرفة فيها، ومنع الأجهزة الأمنية والعسكرية من ملاحقتها، على النحو الذي يوقف التهديد لهذا الموقع الحيوي، وسط غموض حادثة مقتل الجنود المصريين على الحدود، والتعتيم على مرتكبي هذه الجريمة النكراء، وكذلك خطف جنود آخرين لاحقاً، جرى خلالها التنبيه من جانب الرئاسة على حماية أمن الخاطفين والمختطفين على حد سواء، وعدم توضيح الأمر للرأي العام، وهل كان ثمة حادثة اختطاف بالفعل، وتجرؤ من جانب الجماعات الجهادية على النيل من الجنود لإتمام صفقة إطلاق سجناء منهم، أم إنها كانت تمثيلية صنعها الإخوان لتسهيل إصدار عفو رئاسي عن عناصر خطرة من الإسلاميين، وحرف الأنظار ولو قليلاً، بعيداً عن فشل الإدارة الإخوانية، وإحراج القيادات العسكرية؟

أخيراً، لا يمكن اعتبار هذا ldquo;العام الأسودrdquo; في تاريخ مصر، سوى تجربة مريرة في تاريخ المصريين، وإن سألت أي مصري عن رأيه في ldquo;حكم الإخوانrdquo;، فيما عدا منتسبيهم، وأبناء اليمين الديني، سيقول جملة واحدة . . ldquo;غمة وانزاحتrdquo; .