محمد بن علي المحمود

مَنْ يَعرف مسيرة الفقه الإسلامي كما تجلى في المدونات الفقهية المعتمدة في المدارس التقليدية ، يعرف علاقته بالتدين الجماهيري التقليدي الذي كان مُنتجَ هذا الفقه ومستهلكه في آن. فالمدارس الفقهية التقليدية التي شكّلت وعي الأغلبية الساحقة من جماهير المسلمين على مدى ألف وثلاثمئة عام، كانت تمتاح تصوراتها من وعي جماهيري يتماها معها؛ بقدر ما كانت تدعم وتؤسس بل وتقدس مُكونات هذا الوعي الجماهيري الذي (سطّح) الفقه و(تسطّح) به الفقهاء، حتى أصبح وعي هؤلاء الجماهيريين لا يتعدى وعي عوام الدهماء.

من المبكر جدا التأكيد على نهاية التدين الجماهيري التقليدي، هذا التدين الذي سيستمر ما استمرت إيديولوجيا الجهل والتجهيل فاعلة في أرضيتها الخصبة، أي في البيئات التي تبالغ في تتبع سياسات الانغلاق.

لن ينتهي التدين التقليدي؛ لأن مساحة الجهل، والمشاريع التجهيلية التي تشتغل عليه تأسيسا وترسيخا، تجعل من المستحيل أن يضمحل بهذه السهولة؛ رغم كل صور الانفتاح القسري؛ ورغم كل المحاولات الشجاعة التي تبديها الطلائع الغاضبة الخارجة من رحم جحيم التزمت والانغلاق.

إذا كان التدين التقليدي الجماهيري راسخا رسوخ جبال الجهل، ورسوخ فوائد سياسة التجهيل؛ فما هو التدين التقليدي الذي نؤكد أنه بات على وشك الفناء، والذي تقترن وفاته ببداية عهد جديد من عهود الانعتاق والتقدم؟

يتحدد هذا التدين التقليدي الذي شارف على النهاية في ذلك التدين الموجود على مستوى الخطاب الديني، أي على مستوى الوعظ الرسمي وشبه الرسمي، وعلى مستوى التعليم العام والعالي. أي أنها نهاية هيمنة الفقه/ التدين التقليدي المتمثل بالفقهاء التقليديين، وليس ذلك التدين العفوي المتمثل بالتوجهات الطقوسية للعوام وأشباه العوام.

لم يعد ارتباط الإنسان العامي (والمراد بالعامي هنا، من ليس مشتغلا على إنتاج الفكر بأية صورة من صوره، أو ليس مشتغلا بنقده) بالفقيه كما في الزمن السابق، عندما كان الفقيه موضع قداسة تفيض على عالمي: الدنيا والآخرة. فهو (= الفقيه) اليوم يُواجه بالأسئلة والنقد والمعارضة الصريحة، وتنخفض مكانته الدنيوية التي يتكسب من خلالها، كما تتهاوى مكانته القدسية التي كانت تمنحه (البركة!) والبهاء والجلال.

قبل سنوات معدودة، أي قبل أن يتعرض الخطاب الفقهي التقليدي للنقد على مستوى جماهيري واسع بفضل التنوع الهائل في وسائل الاتصال، كان مطمح كل شاب في أي مجتمع تقليدي يكاد يكون محصورا في أن يصبح فقيها تقليديا يتربع على كرسي القداسة الموهومة. فقد كان ثمة مكانة وأي مكانة! تكفل لصاحبها الحصول على العوائد المادية والمعنوية من (أكسل) طريق. فبمجرد الظهور المتوهج بشيء من الحماس والغيرة المفتعلة يصبح الكهنوتي الصغير كهنوتيا واسع النفوذ، يعد نفسه وكل من يرتبط به بمباهج هذه الدنيا الفانية كما يؤكد بوعظه دائما ، فضلا عن مباهج دار البقاء والخلود الأبدي.

اليوم، تحطّمت هذه المكانة التي طالما كانت محط آمال الطامحين الطامعين التواقين إلى البروز الاجتماعي وإلى الثراء المادي. لم يعد موقع الفقيه مجديا، لا ماديا ولا معنويا؛ إلا في نطاق ضيّق، هو أيضا في طريقه إلى الزوال.

انتهى ألق المكانة الوعظية التقليدية؛ عندما بدأت تتكشف للجميع (وهنا أهمية جمهرة الخطاب النقدي في التأسيس للتّحول) أن مُسلمات الفقهاء السائدة لم تكن أكثر من وجهات نظر، نعم وجهات نظر لا أقل ولا أكثر، وجهات نظر تعكس رؤيتهم الخاصة داخل منظوماتهم التي يعتاشون منها، وبوحي من وعي محدود لمجتمعاتهم التي يعتاشون عليها، وليست بأي حال من الأحوال خطابا قدسيا يعكس على نحو آلي، مباشر، صادق مراد الله في خطابه الأزلي.

لقد أدركت جماهير التلقي التي كانت مأخوذة ب (إسلام الفقهاء) أن المسألة الفقهية برمتها ليست يقينيات، بقدر ما هي ظنيّات، هي آراء خاصة، وتصورات خاصة، معجونة ببشرية منتج الخطاب حتى وهي تتماهى مع أعلى مستويات التقديس. والأهم، أنها أدركت أنها ليست (طبخة) سرية ولا معقدة، بل هي مجرد منقولات عن منقولات، متوارثة على مدى أجيال وأجيال. وهذا ما أكسبها كثيرا من قداسة العراقة، لا قداسة العمق. وقد جرى تعزيز هذه القداسة بتصنيم رموز المذهب والطائفة والتيار، وربط الأقوال بهم، بحيث لا يحتاج (المتفيقه الجديد) أكثر من إدماج تصوراته في الخط العام لتياره، والاستعانة بأولئك الرموز المُتصنّمِين؛ لينطق من خلالهم؛ وليحضروا من خلاله، في سلسلة لا تنتهي من التكرار الهذياني الذي يقتل العقل ويشيد صروح الجهل بتعزيز ثقافة النقل الاجتراري.

بشرية الفقه حقيقة مُتعيّنة تتفرع على بشرية الفقهاء. مسألة بسيطة جدا، وفي غاية الوضوح، ولكنها كانت تحتاج لجهد فكري وثقافي وإعلامي هائل، كما كانت تحتاج لوقت طويل؛ حتى يتم ترسيخ القناعة بها، إذ هي قناعة انقلابية، من المستحيل أن تترسخ بجهد أحادي، أو تنجح بضربة نقد واحدة، أو تُنجز في زمن مقطوع، حتى ولو صدرت مفاعيلها من أعتى العقول النقدية القادرة على تفكيك الأوهام.

إذن، بالتدريج (وهو شرط زمني لكل صور التعاطي النقدي مع المقدس)، وبجرأة حذرة، وبجهود متضافرة من حقول ثقافية متنوعة، تهاوت الصروح الكهنوتية المرئية وغير المرئية، وبدت بشرية الخطاب الموروث عارية كما لم تكن من قبل، ولم يعد النقد الصريح، بل والمُصادم أحيانا، غريبا حتى في تلك البيئات التي استولت على عقول أبنائها أشدُّ المنظومات التقليدية تزمتا وانغلاقا.

بات واضحا للجميع أن ثمة فرقا جوهريا حاسما بين الإسلام في نصه المتعالي المقدس من جهة، وبين بشرية الخطاب الذي تنتجه شريحة ما من شرائح المجتمع المسلم من جهة أخرى. حتى أشد تلك الشرائح التصاقا ظاهريا بالخطاب المتعالي (= رجال الدين) لم تعد تحظى بالحصانة التي تدعيها لنفسها صراحة أو ضمنا، إذ أصبح مجمل خطابها لا يتعدى كونه مجرد رأي من بين جملة الآراء التي تدور حول شؤون الحياة والأحياء. وكان الفقهاء التقليديون في مقدمة هذه الشرائح التي جرى إنزالها من علياء بروجها المقدسة إلى حقيقة بشريتها، ومن ثم إلى حقيقة بشرية خطابها، بكل ما يكتنف هذه البشرية من بواعث ودوافع ومطامع ومخاوف دنيوية محضة، تفرضها صراعات الحياة، ومحاولات تحقيق الذات، سواء على مستوى الفرد، أو على مستوى الجماعة، أو على هذا المستوى وذاك المستوى بالتفاعل المتوازي الذي يحفظ لآلية التبادل النفعي أن تشتغل وظائفيا على أفضل حال.

لقد كتب كثيرون في هذا السياق، وتناولوا الموضوع من زوايا متعددة، وتباينوا في مدى التوسع والاختصار، بقدر ما رَاوحوا بين الصراحة والمباشرة من جهة، والمواراة والمداراة من جهة أخرى. لكن يبقى أن ما كتبه نادر حمّامي في كتابه الجميل (إسلام الفقهاء) من أفضل ما كتب في هذا الموضوع، خاصة إذا ما تم النظر إليه من زاوية الاختصار والمباشرة والصراحة، وهي الزاوية التي تضمن مزيدا من التأثير في السياق الجماهيري. وهو السياق الذي يجري الرهان عليه حاليا في تحقيق التغيير في بنية الوعي، إذ فشلت كل الخطابات النخبوية في الدفع بمجتمعاتنا كعرب ومسلمين إلى عالم الحداثة، بعد قرن كامل من الجهود النخبوية التي طمرتها ثقافة الجماهير المتوارثة من أزمنة التخلف والانحطاط.

في هذا الكتاب الذي يجب أن يقرأ على مستوى جماهيري واسع يؤكد نادر حمامي على (بشرية الخطاب الفقهي)، من مقولات الفقهاء أنفسهم وليس من مقولات ناقدي هذا الخطاب فقط. فهو ينقل عن الإمام الجويني قوله: quot;ومن أنصف من نفسه لم يشكل عليه إذا نظر في الفتاوى والأقضية أن تسعة أعشارها صادرة عن الرأي المحض ولا تعلق لها بالنصوص والظواهرquot;. وهذه كلمة من رمز أصولي كبير، لذا يجب التوقف عندها كثيرا، ولكن ليس في هذا السياق.

هذا من ناحية القياس / الاجتهاد. أما من حيث مصدر التشريع الفقهي الآخر (= الإجماع) فيعالجه نادر حمّامي من زاوية اختلاف الفقهاء أنفسهم فيه، حيث الإجماع عند الأحناف هو إجماع جميع الأمة، وعند مالك هو إجماع أهل المدينة، وعند الظاهرية محدود بالصحابة... إلخ، حيث يصل إلى نتيجة لا يمكن الالتفاف عليها، وهي أن الإجماع ذاته (والذي يُراد له أن يكون مصدر تشريع) لم يكن محل إجماع!

إن أشْكَلت هذه المسألة الأصولية، وجعلها محور جدل واسع، لا بد أن يقود إلى عمل نقدي يُزلزل المعمار الفقهي (البشري) من أساسه، من خلال التأكيد على أن هذا المعمارَ بشريٌّ حتى في مُواضعاته الأصولية، فكيف بالتفاصيل الاجتهادية المبنية على هذه المواضعات المستندة على خطرات عقول الرجال، لا على قطعيات النص الديني.

ومن هنا يصل نادر حمّامي إلى أن الأحكام الفقهية المستنبطة قد تكون تبريرات أكثر مما هي حلول، أي أنها تخضع لتوجيه الوقائع، وليس العكس، كما يتوهم أولئك الذين يُماهون حد التطابق بين بشرية الخطاب الفقهي وبين النص المقدس. بل هو يشير إلى حقيقة معروفة، ولكن التأمل فيها لا بد أن يعيد ترتيب مسارات النظر إلى الخطاب الفقهي بمجمله، وهذه الحقيقة تتعلق بكون أصول الفقه جاء تاليا تاريخيا للفقه، أي أن الفقه كمنتج سابق على أصوله التي يُفترض فيها نظريا أن تكون سابقة عليه، فبدل أن تكون الأصول الفقهية آلية إنتاج الفقه، غدت آلية تبرير الاجتهادات / الآراء البشرية التي تم إنتاجها سلفا.

لا شك أن تناول مثل هذه المواضيع الشائكة في علاقتها بالوجدان العام، وبهوية الذات، من أخطر الأمور، حتى وإن لم يكن من أصعبها. وتزداد الخطورة حين يتم تناولها في بيئات محافظة فقهيا، أي في بيئات اعتادت أن تضبط إيقاع حراكها الفكري والسلوكي على مقولات خطاب ممعن في التقليدية التي تشده بكل مكونات وعيه إلى الوراء.

اليوم، تجاوز كثيرون قنطرة المخاوف، وبات لدينا من يتناول بلغة صريحة واضحة ما كان محرما من قبل تناوله ولو بالتلميح من بعيد. ما كتبته وتكتبه الأستاذة: حصة آل الشيخ على الصفحة المقابلة لصفحتي في هذه الجريدة (= الرياض) يصب في هذا الاتجاه النقدي الصريح، وخاصة تلك الجرأة التي بدت في مقاليها الأخيرين: (إيمان الفقه.. وإيمان الأخلاق)، و(quot;العارquot; في منظور خرافة تكافؤ النسب)، إذ هما مقالان نقديان يتحدثان بلغة تواجه الحقائق بأسمائها الصريحة، بعيدا عن المراوغة التي درج عليها كثير من ناقدي هذا الخطاب.

سعدت كثيرا بهذين المقالين؛ بقدر ما سعدت بمقال د. حمزة السالم في الجزيرة الذي تناول فيه السلفية بلغة صريحة، لغة تضع النقاط على الحروف، وتحاول إعادة كتابة المكتوب في زمن مضى وانقضى. ولعل في ما كتبه هذان الكاتبان ما يمكن أن يُعد مؤشرا هاما على الحرية الذهنية للمجتمع، قبل أن يكون مؤشرا على الحرية المؤسساتية التي باتت تدرك أن التزمت والجمود والانغلاق وتصنيم المقولات البشرية يلج بنا إلى طريق مسدود، إلى نفق خانق مُميت، وأن تناول الأفكار في الهواء الطلق هو السبيل الوحيد لبعث روح الحياة في مجتمعنا الواعد بالكثير مما لا يخطر على بال.