عبد العزيز المقالح

كان العرب قد حققوا نجاحاً لا يُستهان به في تأسيس مسرح إبداعي عربي شدّ إليه الأنظار، وكانت مصر وسوريا ولبنان والعراق والمغرب من بين أهم الأقطار العربية التي تحقق فيها هذا النجاح و"مصر العربية خصوصاً" . لكن المسرح الإبداعي العربي توقف عن مواصلة دوره وأدركته في الآونة الأخيرة حالة من التراجع والضمور حتى كاد يختفي إلاّ من بعض العروض الهزيلة والمضجرة بسبب ظهور مسرح آخر، مسرح دامي يكاد يكون مُقاماً على الأرض العربية كلها، وهو المسرح الذي تتجه أبصار سكان العالم اليوم إليه . بعض هذه الأبصار تنظر إلى هذا المسرح الدامي بقدر كبير من التشفي والسخرية، والقليل منها فقط هو الذي ينظر بشيء من الحزن والإشفاق . والمؤكد أنه مسرح واقعي مئة في المئة، وفيه من المشاهد ما يدخل في إطار مسرح العبث واللامعقول . وأي عبث ولا معقول أكثر من أن يقتل العربي أخاه ومواطنه بدم بارد لأسباب سياسية واهية، أو لخلافات على قشور ليست من الدين ولا من جوهره الناصع الجامع .


ولا مبالغة على الإطلاق في القول إن أبصار العالم كلها تتجه في هذه المرحلة، ومنذ وقت غير قصير، نحو الأرض العربية للفرجة على ما يدور بين أبنائها من حوارات بالأسلحة الفتاكة والمدمرة، وإنها -أي أبصار العالم- تتابع أسراب الطائرات الحديثة والمرعبة وهي تجول في الأجواء العربية، وتنازل خصومها بعيداً عن المواجهة الميدانية، ساعية إلى القضاء المبرم على كل من يمثلون في هذا المسرح الدامي، ويحاولون بوعي، أو بلا وعي، أن يقيموا مسرحهم الخاص على هذا الجزء أو ذاك من الأرض العربية . والغريب أنه لا أحد من هذا الطرف أو ذاك يريد أن يتفهم الأسباب أو ينظر في الملابسات والقضايا التي أدت إلى هذا الذي يحدث ويذهب معه كثير من الأبرياء، وتزهق فيه أرواح الأطفال والنساء، ويتشرد الملايين ممن يتركون منازلهم التي ولدوا فيها ، وربطتهم بها وبجيرانهم ذكريات وحكايات، ووجدوا في مناخها مصالحهم ومعايشهم، وفجأة يجدون أنفسهم مشردين في القِفار، أو لاجئين تحت خيام الصدقة والإحسان .


أي مسرحٍ قبيحٍ وملعون هو هذا الذي نرى؟ وأي مشاهد للقتل ومواكب للهجرة والضياع؟ وأي شيطان هو الذي وضع محاور المسرحية واختار لها الزمان والمكان، هي ليست عربية بالتأكيد، المؤلف والمخرج من خارج الأرض العربية، الممثلون فقط من العرب، وهم يؤدون أدوارهم مسيّرين لا مخيّرين . المخرج الكبير الذي نعرفه، ولا نعرفه، هو الذي اختار لهم أدوارهم، والأماكن التي ينصبون عليها خشبة مسرحهم وأخشاب موتهم . كان الوعي بالتعايش، والوعي بالتسامح، قد بدأ يسكن النفوس ويؤثر في برامج العمل السياسي، وفي التقارب بين المذاهب والتقارب بين الديني والقومي . خاف المخرج من هذا التطور، فألقى ما في جعبته من ثعابين الكراهية، وزرع قواه الخفية في أوساط هذا الطرف أو ذاك، فاضطربت النفوس الآمنة واحتدمت المعارك، وأظهر كل طرف استسلاماً منقطع النظير للمخرج ليكسب ثقته، ويثبت له أنه عند حسن ظنه .


لا أشك لحظة في أن جميع الممثلين في المسرحية العربية الدامية كانوا قد بدأوا يدركون خداع المخرج وهدفه البعيد . لكن الوقت كان متأخراً، والدماء كانت قد غطّت كل الطرق المؤدية إلى الحل، ولم يعد أمامهم جميعاً سوى مواصلة تمثيلية الموت . وكل منهم ينهق من أعمق أعماقه: "علي وعلى أعدائي"، وتكون المسرحية بكامل فصولها قد انتهت ووقف من تبقى من ممثليها قبل ثوان من إسدال الستار، وفي العيون دموع وفي الصدور دماء .