التظاهرات الثقافية الجماعية تراجع تأثيرها والحرص عليها لمصلحة التواصل الفردي والآني. «انترنت»التظاهرات الثقافية الجماعية تراجع تأثيرها والحرص عليها لمصلحة التواصل الفردي والآني. «انترنت»

&

إيمان السويدان من الدمام تركي التركي من الرياض

&


"شكرا للمرور، منقول، كل الود" عبارات رغم بساطتها، ونظرة البعض لها اليوم بشيء من السخرية، إلا أنها مقارنة بما يقال هذه الأيام على تويتر وفيسبوك، تجعل الكثير يحنون لها باعتبارها حالة "صحية" لمنتديات ومواقع ثقافية متخصصة، لم يأخذ المشهد السعودي الثقافي وقتا طويلا لولوجها والتعاطي معها، فكان هناك ما يعنى بالأدب والسياسة، أو بالقصة والتشكيل. ولكن هذا التعاطي مع الإنترنت بشموليته ما لبث أن تراجع لحساب ما يصفه البعض بـ "جُزر" صغيرة ومحدودة، من خلال صفحات شخصية على شبكات التواصل.

تحرر المنتديات

رغم الحريات المفاجئة في التعبير، بعيدا عن مقص "رقيب" أو حذر "رئيس تحرير"، إلا أن الغالب الطابع على المنتديات كان الاتفاق، ضمنيا وعلنيا، على قائمة من "الشروط" التي تمنع أي تجاوز، فضلا عن صلاحيات المشرفين تجاه أي موضوع متجاوز. فكانت الإشارة إلى النقل ضرورة أدبية، وتبادل التحايا طبيعة اجتماعية.

اليوم، وبالانتقال من السياق الاجتماعي إلى السياق الفردي، بمباركة شبكات التواصل الاجتماعي، فإن "العمل الجماعي" الذي غالبا ما كان ينتهي بالتوافق، والتخفيف من غلواء الحريات المفلوتة للأفراد، بات يأخذ طابعا آخر فيه الكثير من الحدة والتحدي. حيث شبكات التواصل الاجتماعي تعتمد، على صيغ فردية، في التواصل الاجتماعي، وترتكن لشعور ذاتي بالمسؤولية، ذوقيا وفكريا. فشاعرا كنت أم كاتبا، لم تعد المنابر الأدبية صعبة الارتقاء في ظل اتخاذ مواقع التواصل الاجتماعي منبراً يصل إليه الجميع، وهو الأمر الذي أعطى البعض فرصا ثمينة حتى في تجييش متابعيهم للدفاع عن آرائهم، إذا ما لزم الأمر.

حضور المثقفين في شبكات التواصل الفردي (فيسبوك، تويتر)، يصفه المدون محمد الحداد، بـ "الطارئ". وعن سبب إطلاق هذا الوصف يقول الحداد، وهو واحد من أوائل أصحاب الحسابات السعودية على فيسبوك وتويتر: كانت حسابات تويتر وفيسبوك تقتصر على نوعيات معينة من شباب التقنية والتدوين، على الأغلب، في حين كانت طبقة "المثقفين" تفضل استخدام المنتديات، إلا أن بدايات ما سمي بـ "الثورات العربية"، لفتت النظر لمن اصطلح على تسميتهم إعلاميا بـ "شباب الفيسبوك". وهنا، يضيف الحداد، بدأنا نلحظ توافد شرائح مختلفة من المجتمع وعلى رأسها المثقفون والإعلاميون".

وحول ما إذا كان الوضع أفضل مقارنة بما سبق، يقول الحداد: "الوضع اليوم يفتقد البساطة والعفوية في التعاطي، ويغلب عليه التنظير وطغيان الأنا، فمشاهير تويتر يمارسون التصفيات الفكرية مستعينين بحجم وكثافة متابعيهم، بينما مثقفو الفيسبوك نقلوا المعارك الأدبية ذاتها التي كانت في صحفهم وأنديتهم الأدبية، ولكن بشكل إلكتروني أكثر حداثة، فأغرقوه".

مستقبل الشبكات

وعن استشراف مستقبل هذه الأقنية الحديثة عالميا يبدو مارك زاكربرغ رئيس شركة فيسبوك أكثر تفاؤلا، إذ يقول في رسالة سابقة إلى المستثمرين في شركته: "لم تؤسس فيسبوك في الأصل لتكون شركة، لكن وجدت لتحقق رسالة اجتماعية تتمثل بجعل العالم أكثر انفتاحا وترابطا". وأكد "زاكربرغ" الذي بدأ تصميم البرامج المعلوماتية في سن الحادية عشرة في رسالته إلى المستثمرين أن هدفه ليس كسب المال.


المسافة بين الشباب والمثقفين لم تردمها "شبكات التواصل" كما كان متوقعا بقدر ما عمقت فجواتها.

ولكن هذا الحلم لم يقنع الكثير من الكتاب والمختصين، إذ يقول الكاتب "أندرو كين": في الواقع أن ثورة الإنترنت لا تقدم لنا إلا نظرة سطحية على العالم بدلا من التحليلات المعمقة، وتقدم الآراء الحاسمة بدلاً من المنطق الاستدلالي المتوازن. وقد تحولت المعلومة من خلال الإنترنت إلى منتج مشوش بمئات الملايين من المدونين الذين يعبرون في الوقت ذاته عن أنفسهم. وهو ما يؤكده الباحث رافاييل سيمون حين يقول: "الإنترنت لا تجعلنا أقل ذكاء، ولكنها تدفعنا لاستخدام ذكائنا بطريقة سيئة".

أما فيما يختص بالوظيفة الإعلامية، لهذه الشبكات، التي يحتج بها كثير من المثقفين اليوم فيقول "دوك سيرلز" الصحفي والمدون المعروف: من السخافة أن نسمي تويتر وفيسبوك "إعلاماً اجتماعياً" أو أن نحصر فهمنا للإعلام بما تقوم به هذه "الشركات التجارية"، لا ينبغي أن نفترض أن الإعلام هو الخط الذي نرسمه حول هاتين الشركتين أوالثلاث، هذا فهم خاطئ وسيجعل "الإعلام الجديد" يبدو عابراً بعد بضعة أعوام.

ويبقى السؤال المطروح محليا: ماذا أعطت هذه الصفحات "الشخصية" والفردية للمثقفين السعوديين، مقارنة ببعضها البعض، أو بصفحات كيانات مؤسسية جماعية (صحف، تلفزيون)؟

ثقافة متأصلة

القاصة والإخصائية الاجتماعية عقيلة آل حريز تحدثت لـ "الاقتصادية" بقولها " لا نستطيع إنكار أن الفيسبوك مجال من مجالات ارتدادات الثقافة للمثقف واتساعها، فهو كالمقهى الذي يرتاده تماما وكالصالونات الأدبية التي ساهمت بشكل أو بآخر في صقله، فكما قال مارك بيندجراست " في كل مكان تباع أو تعدّ أو تحتسى فيه القهوة ستجد نقاشا حيّا وأفكارا مذهلة وأحاديث شيقة"، بمعنى أن المثقف كأساس مبني موجود منذ البداية، وإنما المتغير هو التحريك للثقافة ومستواها ومستوى التبادل فيها ومداه بين شرائح الناس، فكلما كان هناك حوار كان هناك تبادل حي لمعارفهم وتطورها وبالتالي نموها، مستدركة بأن خصائصه وطبيعته لن تكون متغيرة عن الصفات العامة بغيرها فهو الشخص ذاته، وما تغير هو القالب العام أو الشكلي فقط وإن بدا متخففا من الرسمية والجمود، فالثقافة المتأصلة لا نمطية تعريفية لها سوى الثقافة بمفهومها الواسع.


وضع شبكات التواصل اليوم يغلب عليه التنظير وطغيان "الأنا".

وأشارت آل حريز إلى أن الرجوع لهذه المواقع يجمع بين الإفلات من الرقابة والحرية في التشكيل، فالصفحات الشخصية سمة عصرية وإطار عام يشمل الجميع كهوية أو بطاقة تعريفية يسهل الرجوع إليها للبحث عن الملف الإنجازي للمثقف بدليل أن مثقفين وكتابا وعظماء غادروا عالمنا منذ زمن طويل لهم مدوناتهم وصفحاتهم الشخصية تحمل كل ثقافتهم وإنتاجهم بل وتحييه، وعليه فإن هذه الصفحات لا تجعل إنتاج المثقف وفكره مقيدا أو ميتا، مضيفة أن المثقف بحاجة ماسة إلى أن يكون متحرراً من المجال الرسمي بين وقت وآخر.

وترى آل حريز أن مثقف اليوم أصبح قريبا جدا من الناس نتيجة نشوء علاقات شخصية ولو كانت افتراضية أثرت في طبيعة التواصل الثقافي اليوم وذلك يعود لنوعية هذه العلاقات ومستوى نهجها، لاحتكاكه مباشرة بجمهور القراء وفيهم البسيط والمحدود والمبهر والمثقف وعالي الثقافة جدا، فصار ينهل منهم ويستفيد من خبرتهم وآرائهم بما يخدمه ويثري نضجه.

وعن توجه المهتمين بالشأن الثقافي للفيس بوك، وتفضيل الساسة لتويتر ذكرت آل حريز أن تويتر يبدو ككبسولات سريعة ترميزية أكثر من كونها تفصيلية أو توضيحية، كما أن الجمهور واسع والرمزية فيه كبيرة بمعنى العمل بأسماء مستعارة والسياسة غالبة عليه ورتمه سريع الإيقاع. بينما الفيس كواجهة أهدأ وأكثر إتقانا ويبدو كمدونة رسمية ويعنى بجوانب عدة منها الأدبية والثقافية والفنية وحتى السياسية وإن كان بنسبة أقل، فهو يمنح مجالا للتأمل وهدوءا نسبيا في الاستيعاب. وفي الآخر الغرض أو الهدف العام يختلف بحسب تطويع الناس له على كل حال، فلعل المساحة المتاحة لها علاقة بالأمر والهدفية والظهور.

هروب جماعي

الإعلامي والكاتب فاضل العماني يرى من جانبه أن عادة اختيار الفضاء الذي يبحر فيه المثقف يعتمد على نوعية وأهمية الرسائل التي يريد أن يمررها في ثنايا كتاباته وإبداعاته، وهنا تأتي ظاهرة الفرز والاختبار التي يمارسها المثقف، لافتاً إلى أن الرسائل المباشرة والمختصرة، أو تلك التي تعتمد على قدرة القارئ على الفهم والتفكيك، يمررها المثقف في تويتر باعتباره منصة صغيرة جدا لإلقاء ونشر الفكر والرأي والتجربة، فيما يرى أن الفيس بوك عادة ما يكون ملاذا للمثقفين المغرمين بوضع النقاط، كل النقاط على الحروف، كل الحروف، فيما يتجه الساسة عادة إلى تويتر، لأنهم لا يملكون الوقت، ولا يريدون أن يقولوا كل شيء، لأنهم يعرفون خطورة أن تقول كل شيء، في حين يتجه المثقفون والشعراء والأدباء للفيس بوك، لأنه ساحة واسعة جدا لكي يمارسوا فيها "الإسهال" الفكري والثقافي.

&

ووصف العماني الوضع الثقافي اليوم بـ "مسلسل الهروب الجماعي" الذي يمارسه الكثير من الكتاب والمثقفين والمفكرين باتجاه النشر الإلكتروني عبر وسائل وصفحات الإنترنت، وهو ما يتيح لهم الالتقاء بالأصدقاء والنقاد، إضافة إلى الملايين من المتصفحين الذين يسهل عليهم التفاعل مع ما ينشر أو يتداول في مواقع التواصل الاجتماعي أو صفحات ومــــواقع الإعلام الجديد، مضيفاً أن مواقع التواصل الاجتماعي أتاحت الفرصة الواسعة للإفلات من هيمنة الرقيب التقليدي الذي يسكن في ثنايا الصحف الورقية، إضافة إلى الفضاء الكبير الذي يوفره النشر الإلكتروني، سواء في شبكات التواصل الاجتماعي كالفيس بوك وتويتر، أو في المواقع والصفحات الرقمية الأخرى. وذكر العماني أن المزاج الإلكتروني الجديد الذي أصبح الملاذ الكبير للكثير من المثقفين والأدباء الباحثين عن أجواء الحرية والشفافية والمصداقية التي قد لا توفرها وسائل الإعلام التقليدية، هو الأكثر استقطابا الآن، ولا سيما وسط الأجيال الشابة من المبدعين والمثقفين.

وقال "المثقف، هو الذي يمتلك أدواته وآلياته وآراءه وأفكاره، ويصعب التمييز بين المثقف والمبدع والمنجز بالاتكاء على البيئة التي يمارس فيها كل ذلك، مضيفاً أن الوسيلة تؤثر أحياناً في إبراز الشكل الخارجي للمادة الإبداعية، ومدى تفاعلها مع الآخر باعتبارها لا تسير في اتجاه واحد، ولكن ذلك رغم أهميته وتأثيراته، إلا أن المثقف الحقيقي هو الذي يملك ملامح ومعالم التشكل والتكون والتمدد، دون التوقف كثيرا عند الأشكال والقوالب والوسائط.

مثقف خاص

أما الكاتبة نادية الفواز فترى أن معظم الصحف تقدم المنتج الإعلامي الحيادي الذي لا يرتقي لتطلعات العديد من الإعلاميين، مضيفة أن وسائل التواصل الاجتماعي منحت الكتاب والمبدعين سقف حرية أكبر وساهمت في نشر آرائهم وإبداعاتهم الفكرية وهذا ما يبحث عنه العديد من الكتاب ويكتبون لأجله.

وقد أدت عملية التواصل على هذا الصفحات بحسب الفواز إلى تلاق من نوع خاص بين الكتاب والمبدعين من الإعلاميين الذين صاروا يتداولون الأفكار كما في الأسواق الأدبية القديمة ويعرضون منتجهم الفكري الذي يجوب العالم أجمع في شمولية كبيرة كما أفرزت هذه الوسائل مثقفين من نوع خاص لا يقدمون الأفكار أو يبدعون في إنتاجها ولكنهم يبدعون في نقلها وتداولها وإبداء آرائهم حولها. وقد ساهمت هذه الوسائل بلا شك في عمل نقلة نوعية في فكر الإنسان العربي وقدمت له الفكر والثقافة على طبق صباحي ومسائي يومي.

وتعتقد الفواز أن تويتر نظرا لتوجهاته الخاصة بالاختصار ولشمولية التوجهات وإمكانية الوصول إلى المبدعين وكبار الشخصيات من المفكرين في كافة أنحاء العالم مما سهل حالة التواصل السريع الذي ينشده رجال الدين والسياسة، بينما يقبل الأدباء والمبدعون على الفيس بوك نظرا للمساحة التي يمنحها لهم في التواصل مع العامة وتقديم إبداعهم دون أي قيد أو شرط، وتقول: أنا أحتفي بالفيس بوك كثيرا فهو بوابة إبداعية ضخمة لتداول المعلومات وتلاقي الأفكار بحرية أكبر.

يبقى أنه على الرغم من التكرار الأزلي لضرورة كسر القيود وتحطيمها، والتي يطالب بها المثقفون دوما، إلا أن ذلك لم يمنع اللغوي الشهير نعوم تشومسكي من القول: "إن المثقفين يحبون أن يعتقدوا أنهم محطمون للرموز. لكن إذا ما ألقيت نظرة على التاريخ فسيكون الأمر معاكسا تماما". فهل يستمر التاريخ حتى بعد هذه الوسائل والصفحات النوعية المتلاحقة، في خذلانه للمثقفين أم سينصفهم؟ الجواب يبقى، هو أيضاً، في عهدة التاريخ.
&