إياد أبو شقرا
إعلان «الدولة الإسلامية في العراق والشام» (داعش) قيام «الخلافة الإسلامية» في العراق تطور، في اعتقادي، لا يمكن أن يمر مرور الكرام، لا على صعيد وجود أو انعدام مقومات حقيقية مكانية وزمانية لتأسيسها، بل يجب التوقف عنده في ظل الظروف العامة المحيطة بها.
بادئ ذي بدء لا تبدو واضحة حتى لمتابعي الشأنين الإقليمي والجهادي مؤشرات لحجم «داعش» الفعلي، الذي يتيح لها إعلان ما أعلنته. فحتى عندما شنت هجومها الحالي في غرب العراق وشماله، وادعت لنفسها معظم العمليات العسكرية، ارتفعت أصوات من العشائر والجماعات السنية الأخرى، محذرة من أن ثمة من يريد صبغ الانتفاضة الشعبية الحاصلة في المناطق ذات الغالبية السنية على حكم نوري المالكي - المدعوم إيرانيا - بصبغة «داعش» لتسهيل التأجيج ضدها تمهيدا لضربها.
ثم أن ثمة صراعا دمويا بين «داعش» وعدد من التنظيمات المشابهة لها فكريا وعقائديا يستعر في المنطقة، منها جبهة «النصرة» التي تتبع تنظيم «القاعدة»، ناهيك من التعارض الكبير في الممارسات بينها وبين الجماعات الإسلامية الأقل تشددا، التي تنحو منحى آخر في السعي إلى السلطة.
أضف إلى ما تقدم أن هناك معطيات جيوبوليتيكية استثنائية تلقي بظلالها اليوم على عموم الشرق الأوسط. ولئن كانت أطماع طهران في منطقة الخليج قديمة، فإن الطريقة التي تتعامل بها الآن مع كيانات «الهلال الخصيب» غير مسبوقة. ذلك أن طهران، عمليا، تحكم بالواسطة كلا من العراق وسوريا ولبنان. وتأتمر بإمرتها تنظيمات مقاتلة أسقطت واقعيا حدود «سايكس - بيكو» قبل أن تسقطها «داعش» وتعلن على الأثر «الخلافة». ونرى لها كذلك في شبه الجزيرة أصابع نشطة وتحالفات تكتيكية واستراتيجية في منطقة الخليج واليمن، بل إن لها صلات حتى في شمال أفريقيا العربي.
هنا لا بد من التوقف طويلا عند سرعة تجاوب واشنطن مع طلب نوري المالكي مساندته، بعكس موقفها «الخجول» - الذي يصفه كثيرون بالمتواطئ - إزاء معاناة السوريين مع نظام الأسد على امتداد أكثر من ثلاث سنوات قضى فيها مئات الألوف وشرد الملايين. وهو ما يشي بمنظور استراتيجي أميركي للمنطقة لا تطمسه العبارات المنمقة المضللة.
أساسا علينا تذكر أن جوزيف بايدن، نائب الرئيس الأميركي الحالي والسيناتور السابق، كان قد اقترح تقسيم العراق عام 2006، أي قبل توليه منصبه الحالي. وكانت رؤية بايدن تأسيس ثلاثة «كيانات» للشيعة والسنة والأكراد. وقبل ذلك، كان «المحافظون الجدد»، الذين هيمنوا على السياسة الشرق أوسطية الأميركية في عهد الرئيس السابق جورج بوش الابن يتكلمون عن «شرق أوسط جديد». ومع أن ملامح هذا «الشرق الأوسط الجديد» كانت غامضة بعض الشيء - على الأقل على العرب - فإن عملية غزو العراق وما عقبها من إسقاط نظامه واجتثاث جذور السلطة فيه، ومن ثم حل الجيش وقوات الأمن، والتغاضي عن النزعات الطائفية المذهبية والعرقية، والنوازع الانتقامية الثأرية، مهدت الطريق إلى «عراق بديل» مختلف تماما عن «عراق ما قبل 2003». العراق البديل هذا تكامل بصورة واضحة لأذهان مخططي السياسة الخارجية الأميركية، مع منظومة جديدة غدت معالمها جلية للعيان. وأدى فيها نظام بشار الأسد الدور الموكل إليه، ألا وهو اصطناع الشراذم الأصولية السنية، واستغلالها على المستويين المحلي والإقليمي.
بما يخص العراق، كلف نظام الأسد بتجنيد شراذم جهادية متشددة وإرسالها إلى العراق - على غرار ما كان يفعله «أبو القعقاع» محمود قول آغاسي - لمضايقة قوات الاحتلال الأميركي تمهيدا لفرض سحبها. وهذا بالضبط ما كانت تريده طهران، بدلا من الاصطدام مباشرة بالقوات الأميركية وتحمل الكلفة الباهظة لإراقة دماء الأميركيين. ونجحت خطة طهران، واقتنعت القيادة الأميركية بأن ثمن البقاء في الأراضي العراقية ما عاد مقبولا.. فانسحبت تاركة البلاد تحت سلطة سياسية تابعة للقيادة الإيرانية، والمناطق السنية تحت رحمة الجهاديين المتشددين، إلى أن ضاقت بتجاوزاتهم وتعسفهم العشائر فظهرت «الصحوات»، وأفلحت بإبعادهم لفترة لا بأس بها عن معاقلها.
في لبنان، كان مطلوبا إنهاء «الحالة السنية» التي مثلها رفيق الحريري، رئيس الوزراء السابق، وأبرز الساسة السنة، غير أن الجهة المخططة والمنفذة أساءت تقدير ردة الفعل. فقط ردة الفعل. لكن هذا الخطأ العرضي أمكن تصحيحه بعد استيعاب صدمة ردة الفعل الشعبية غير المحسوبة بدقة، ومن ثم استعاد محور طهران - دمشق زمام المبادرة. وبدأ العمل على القضاء على القيادة السنية «المعتدلة»، المقبولة عربيا ودوليا، عبر اصطناع قيادات متشددة تزايد على تيار «المستقبل» الشعبوي الخدماتي الذي يفتقر أساسا إلى «الغريزة» السياسية والأرضية الآيديولوجية الصلبة، وتسحب بشعاراتها الراديكالية الغاضبة «البساط السني» من تحته. وكان أول الغيث تسهيل دخول تنظيم «فتح الإسلام» إلى مخيم نهر البارد في شمال لبنان، حيث إحدى أكبر الحواضن السنّية في البلاد. وكما حدث مع «صحوات» الأنبار حصل في نهر البارد، فسقطت محاولة «فتح الإسلام» على أيدي شهداء الجيش اللبناني الذين كان معظمهم من سنيي المنطقة المحيطة بالمخيم، أي عكار والمنية والضنّية وطرابلس.
كذلك عملت القيادتان الإيرانية والسورية على تفجير «تحالف 14 آذار» الذي كونه الزخم الشعبي اللبناني المناوئ لهما من الداخل. فجرى احتضان ميشال عون، أحد غلاة الزعماء المسيحيين المتشددين، فــ«أعيد تأهيله»، ثم استخدامه لشق صفوف القوى الديمقراطية والليبرالية والتقدمية في لبنان. ونفذ عون المهمة الموكل بها بحذافيرها حتى الآن. وبالتنسيق والتفاهم مع حزب الله عطل انتخاب رئيس جديد للجمهورية، وبالأمس طرح «مبادرة» طائفية - تقسيمية تناقض الدستور وتتجاهل كليا مخاطر الفراغين السياسي والأمني.. بينما يعزز حزب الله، وسط الفراغين، موقعه كدولة داخل الدولة.
أما في سوريا، فلا حاجة إلى التذكير بما فعله بشار الأسد من إعادة رسم جغرافيتها السكانية بالدم والتهجير والتقسيم الطائفي والعرقي الفعلي. «سوريا اليوم» أيضا غير «سوريا مطلع 2011».
وهكذا أمامنا غول تقسيم المنطقة، ومن ثم تقاسمها باسم احتواء «خلافة البغدادي»، التي لو لم تكن موجودة لوجب اختلاقها.
التعليقات