نوال السعداوى
رأيت سور الصين بعينى ولمسته بيدى، بعد أن رسمته فى خيالى منذ قرأت عنه فى طفولتى، وكنت أظن أنه بنى ليمنع دود القز من الهروب خارج الصين، يستحق السور لقبه العظيم، يعتبر إحدى معجزات الإبداع الإنسانى مثل الهرم الأكبر بالجيزة.
بنى السور فوق الجبال قبل ألفى عام لمسافة ثلاثة آلاف كيلو متر ممدودا من الشرق الى الغرب، لحماية الصين من جيوش الأعداء، لكن بعد اكتشاف الطائرات الحربية أصبح السور يجذب ملايين السياح من العالم ويدر دخلا كبيرا للصين.
لا يمكن الوصول إليه إلا بعد صعود درجات سلالم بدت لانهائية بعد تجاوزى الثمانين عاما، ثم ركوب «التليفريك» الذى يعلو بنا بين الجبال الشاهقة حتى نلامس السور والسماء.
العاصمة «بكين» فى الأسبوع الأخير(من سبتمبر 2014) تغلفها سماء رمادية تشبه سماء القاهرة وأعداد هائلة من البشر، أغلبهم شباب وشابات، لكنهم يسيرون بخطوة سريعة متوثبة، تتقافز فوق ظهورهم حقائبهم الخفيفة، يسابقون الريح على أقدامهم أو فوق الدراجات، البنات والأولاد لا فرق، المرأة الصينية مساوية للرجل فى الحياة العامة والخاصة، فى قوانين الدولة والأسرة، لكن المساواة الحقيقية لم تصبح واقعا إلا بعد الثورة الثقافية الحقيقية، كما قال لى عميد كلية الدراسات العربية بالجامعة، الدكتور «شوى تشينج قوه»، لكنه يحمل اسما عربيا هو «بسام».
حسب تقاليد هذه الكلية، يحمل العميد والأساتذة والطلاب والطالبات أسماء عربية رافقنى الدكتور بسام فى زيارتى للسور، والأستاذة «منغ بينغ جيون»، واسمها العربى زهراء، تتكلم العربية بطلاقة، مثل العميد وكل الأساتذة والأستاذات والطلبة والطالبات. وسألت العميد بسام ماذا يقصد بالثورة الثقافية الحقيقية، فقال إنها ثورة الرابع من مايو 1919 ، التى لعبت دورا فى إعادة قراءة التراث الصيني، احتفظت بالإيجابيات وحذفت السلبيات، دعم فكر لوشيون وزملائه الثورة الثقافية الحقيقيه، أما ثورة »ما و«فلم تكن حقيقية، لأن الثورة الثقافية الحقيقية لا تحدث إلا بإعادة قراءة التراث والتخلص من جميع الفروق بين الناس، ونزع الألوهية عن كونفوشيوس وجميع الأباطرة والملوك والزعماء، تحرر الشعب الصينى من الآلهة والشياطين معا، وتحرر من التبعية لأى دولة أخري، أصبح الشعب الصينى سيدا لنفسه مستقلا فى اقتصاده وإنتاجه وثقافته وفكره الناتج عن عقله وإبداعه العلمى والفني، وأصبحت المرأة مساوية للرجل فى قانون الأسرة، وهذا هو أساس النهضة.
النهضة الحقيقية لا تحدث بسبب النهضة الاقتصادية والقانونية فقط، بل بالنهضة فى جميع المجالات الاجتماعية والسياسية والتنظيمية والثقافية والفنية والتعليمية والأخلاقية، لا تستمد الصين القيم الأخلاقية من دين معين، بل من المبادئ الانسانية العليا، كالصدق والحرية والأمانة والعدالة والمساواة والشجاعة والإخلاص فى العمل والصداقة والحب والسلام.
فى اجتماع مع عدد من الكاتبات ونقاد الأدب ومنهم الناقد المعروف «تانج شيادو» أدركت أنهم يعرفون عن الأدب العربى والمصرى أكثر مما نتصور، وقاموا بترجمة الكثير من الروايات العربية والمصرية، رأيت الترجمة الصينية لأربع من رواياتى منها «الأغنية الدائرية» وعدد من قصصى القصيرة منها «ليس لها مكان فى الجنة»، وتحدث الناقد «تانج شيادو» طويلا عن «الأغنية الدائرية» وقال إنه قرأها بمتعة نادرة وكأنه هو الذى كتبها فى الحلم، وقام الأستاذ «بنعليغ» وزوجته «جانى» بترجمة روايتى «امرأة عند نقطة الصفر» إلى الصينية عام 1988، أما الأستاذ «قاو شينغ» محرر مجلة الأدب العالمى، فقد نشر فى عددها الأخير (2014) بعض قصصى القصيرة ورواية الأغنية الدائرية بالكامل، ودراسات نقدية عن أعمالى الأدبية.
فى هذه الزيارة الأولى للصين اكتشفت أننى أحظى بتقدير كبير فى الصين أكثر من الوطن، وأدركت كيف يمكن للأنظمة الداخلية الاستبدادية أن تدفن أعمال المبدعين والمبدعات، وتؤلف الأمجاد للمنافقين والمنافقات.
الطالبة الصينية اسمها «واحة» السبب الأول وراء زيارتى الأولى للصين، تكتب أطروحة بعنوان «القلم والمشرط» عن أعمالى الأدبية، لنيل درجة الدكتوراة بالجامعة، زارتنى «واحة» فى بيتى بالقاهرة العام الماضى، كانت تقرأ لى منذ الثامنة عشرة من عمرها، وخلال عشر سنوات فقط قرأت كل ما نشرته من كتب ومقالات، وكل مانشر فى العالم عن أعمالي، هذا الجهد الهائل لهذه الفتاة الصينية النحيفة جدا، الصلبة جدا كالحديد، فى تمردها وثورتها وإبداعها، حوطتنى بذراعيها قائلة: كان حلم حياتى أن أراك. وللحديث بقية
&
التعليقات