حسين شبكشي

تابعت بإعجاب كبير التغطية الإعلامية المحمومة والمتواصلة لاحتفالات أهم مدن العالم بدخول رأس السنة الميلادية الجديدة والتي كلها تعتمد على استعراضات هائلة فيها الألعاب النارية والعروض الموسيقية والزينة الكبرى وغير ذلك من عناصر الجذب السياحي والترفيهي اللافت جدا.


وتنتقل التغطية التلفزيونية المثيرة من أوكلاند في نيوزيلندا لتصل إلى سيدني بأستراليا كأولى المدن التي تبدأ الاحتفال، ثم تنتقل إلى مدن الشرق الآسيوي من طوكيو وتايبيه وسيول حتى تحط في دبي التي أصبحت تلقى الاهتمام العظيم بسبب براعة وتميز الاستعراض الاستثنائي الذي تخطط له الإمارة المتألقة طوال العام، ومن ثم تحط التغطية رحالها في القارة الأوروبية، فتأتي على باريس ولندن وغيرهما من المدن الأوروبية المميزة، فهناك فيينا وروما وبرلين ومدريد على سبيل المثال ومن ثم تصل التغطية لتحل في قارة أميركا الشمالية فنرى مشاهد الاحتفال في نيويورك ومونتريال وتورونتو وشيكاغو وصولا إلى لوس أنجليس وسان فرانسيسكو في الساحل الغربي من الولايات المتحدة.


كل هذه التغطية تظهر أن هناك «تواصلا وولاء» للمدن الكبرى أكثر من البلدان التي تنتمي إليها هذه المدن نفسها. فهناك على سبيل المثال سياحة باريس وسياحة فرنسا بمعنى أن هناك أرقاما ومؤشرات وإحصاءات ممكن حسابها لتباين الأثر السياحي على باريس وحدها مقارنة مع سائر فرنسا نفسها، تماما كما يمكن فعل نفس الشيء بالنسبة للاقتصاد في لندن العاصمة البريطانية العريقة مقارنة مع اقتصاد سائر المملكة المتحدة، بل هناك تطور أكثر بالنسبة للاقتصاد اللندني الذي يتحرك وحده على ما يبدو وله مؤشرات خارج ما يحدث في سائر اقتصاد بريطانيا، فلندن تمكنت من استحداث مؤشر لقياس اقتصاد حي بأكمله يطلق عليه المربع الذهبي وهو المنطقة التي تتضمن شوارع نايتسبريدج وكينزنغتون المعروفة بمواقعها التجارية والسكنية المميزة والاستثنائية جدا.. هذا المربع بات له قياس مستقل عن سائر لندن وحتما عن سائر المؤشر الاقتصادي البريطاني.


هناك مدن تتنافس على المجد والتميز والإبداع بشكل لا يمكن إنكاره، وهناك سباق واضح الملامح.. سباق ريادي رئيسي بين 3 مدن عملاقة، سباق على القلب الحضاري والثقافي لنبض العالم وهو قائم اليوم وبشكل عنيف ومحموم بين لندن وباريس ونيويورك (تحاول اللحاق بهذه المدن وبخجل مدن أخرى مثل برلين وميلانو ولوس أنجليس وتورونتو وطوكيو وسيدني). وهناك سباق آخر لا يقل ضراوة ولا سخونة وهو بين مدن أصغر حجما ولكنها في تركيبتها هي أقرب لدويلة مستقلة تقدم فيها المبهر والعجيب من الخدمات والتسهيلات للترفيه والاستثمار والمقصود هناك طبعا كل من هونغ كونغ وسنغافورة ودبي (مع وجود منافسين لذات الهدف ولكن بمسافات أبعد مثل سيول وكيب تاون وكوالالمبور وإسطنبول).


اقتصاديات المدن باتت تحديا مثيرا بحد ذاته؛ فهي تخلق آلة جذب استثنائية وتوجد آليات للترويج والتسويق فتطلق المهرجانات السينمائية والتسويقية وتقام المناسبات الرياضية والثقافية والفعاليات الخاصة بالأعمال، ويكون السعي المحموم لكسب حق استضافة بطولات تنس وغولف وإقامة سباق فورمولا 1 للسيارات أو حفلات موسيقية كبرى أو معارض تجارية مشهورة.. كل ذلك لأجل وضع المدينة على خريطة الاقتصاد العالمي كوجهة ومقصد مستقل بغض النظر عن أحوال البلد أو المنطقة ككل.


في اقتصاد العولمة المتشابك والمتداخل والشديد التشابه تظل هناك مساحة للتميز والتفرد والإبداع وهو ما تقوم به «المدن» كل على حدة لنيل هذا الشرف، وما مشاهد الاحتفال بدخول رأس السنة الميلادية إلا أحد أدلة وجود هذا التنافس الشرس الذي يصب في نهاية المطاف لمصلحة الناس كمتلقين ومستفيدين أولا وأخيرا.