متى يصير العرب مؤسسين وليس مجرد وَرَثة لتراثهم!
مطاع صفدي
إذا كان من المفترض أن يتفاءل العالم مع حلول العام الجديد فليس لشعوبنا العربية من الأسباب الواقعية ما يجعلهم يرون أن عامهم الجديد سيكون أفضل من سابقيه. بل ربما أتى بما هو أسوأ. فما دام كل مستقبل إنما يبدأ من اللحظة الحاضرة، وهذه بدورها ليست سوى نتاج لما جاء قبلها، فما الذي سيكسر هذه السلسلة الحديدية من تتابع الفواجع العامة التي غطت حياة الملايين من بشرنا المعذبين هل هو الحلم أو الأمل وحده صانع ما يشبه المعجزات، أم أن شعوب الأمة العربية قد اعتادت ألا تتخلى عن إرادة التغيير مهما عانت من عثرات الطريق، أو من عبث الاختيارات السياسية الخاطئة. فما أن يتساقط بعضها في هاويات سحيقة حتى تنبلج ملامح منافذ جديدة، قد تكون حقيقية، وقد يخترعها الوهم، لكنها تفعل فعلها، من حيث أنها تعيد الثقة بهذا الغد القادم مهما كانت تباشيره ملتبسة. ذلك أن إرادة التغيير هي المنوط بها مكافحةُ الاستسلام، ومعاندة الأقدار الظالمة، ولولاها لامتنعت الحياة، وانقضت حضارة الإنسان منذ عهود سحيقة.
فلا بأس من أن يحتفل بعض العرب بمولد عام آخر كبقية أمم العالم. ولعل الشعوب المنكوبة بكوارثها المتناوبة عليها هي الجديرة أكثر من غيرها بالتعلق بثقافة الفرح الممنوع على أجيالها التمتع بمناسباته الكونية مع بقية أندادهم في عالم اليوم. فلا بأس من أن تتشارك البشرية في أعياد كونية تتجاوز حدودها السياسية وخلافاتها الحضارية. إذا كان الفرح هو الجامع ما بين المحتفلين. فلم الأشرار وحدهم هم المنتصرون في كل مباراة يدخلونها ضد من يعتبرون أنفسهم من أخيار مجتمعات الأرض قاطبة.
الساحات العربية المفتوحة على الأسوأ من شرور العالم هي التي تقدم، من عام إلى آخر، أحدث النماذج المشؤومة من نوع هذه المباريات ومن أبطال الفرسان المجلّين وأضدادهم من وحوش العصر المتجددين. كأنما النقلة الراهنة من عام إلى آخر إنما تكرر قانون تلك المباريات التعسفية.
وفحواه هو ألا تقوم للنهضويين الحقيقيين في كل حضارة رائدة أو تابعة، أية قائمة ألا يكونوا مؤسسين، بل يظلوا مجرد وَرَثةٍ لأصنامهم القديمة..
إنه السؤال الأزلي : لماذا يتقدم البعض ويتخلف البعض الآخر، والأوائل هم القلة والآخرون هم الكثرة. إنه قانون كلي تخضع له جميع أصناف الحضارات بصرف النظر عن كونها غربية أم شرقية. لكن النوعية الغربية هي التي تقدمت وهي التي نظَّرت لشروط التقدم وظروفه. بينما اعْتُبِرت حضاراتُ الشرق محافظة وتقليدية. وجاء الإسلام في مقدمة هذا الصنف.
فلم يحدث التمييز بين الإسلام كدين وثقافة وتاريخ، وبين البعض من ظروف شعوبه ودُوله الراهنة؛ إذ أن المتقدم يسمح لذاته أن يلغي معايير الاعتبار الوجودي، وليس السياسي وحده، بحيث يتيح – هذا الأول للثاني – أن يكرر نفسه فحسب، بينما يحتكر هو المتقدم قيادةَ التغيير بالنسبة لذاته، ويقنّنه بالنسبة للآخر. بل تغدو امتيازات هذا المتقدم جميعها ملخصة في القدرة الكلية على احتكار التغيير ومنع كل آخر من المشاركة في إنتاجه أو تنويعه.
يبقى أن جريرة المتخلف في نظر أسياد التغيير تكمن في إصراره على ابتكار أسلوبه الخاص في تغييره لمعطيات واقعه المادي والمعنوي. فما ليس مقبولاً في الوعي الغربي ليس الاستقلال السياسي لحضارات الشرق، بل لوجود ما يدعى «حضارة» في غير ديارها الأصلية، التي هي ديار الغرب، فالفارق حسب المصطلح الفلسفي هو انطولوجي أصلياً ما بين نوع من البشرية معدّة لتمارس مهمات التأسيس لها وللآخر. ونوعية أخرى من أولئك البشر المغايرين، مؤهلة لتكرر مظاهر حياة مجلوبة عن مبدعيها الأوائل.
وبعد، هل سيأتي الغَدُ مختلفاً عن أمسه. لماذا الاحتفال إذن. أية متغيرات يمكنها أن تدخل ما يشبه أسطورة الفوضى الخلاقة على مجتمعات مكبّلة بموروثاتها، لن تستطيع أن تشق طريقها إلى جذور الواقع المتوارث، من دون أن تحدث انقلاباً في نظام الأنظمة المعرفية السائدة شعورياً ولا شعورياً في لاوعي النُخب القليلة الآخذة بشعارات التغيير العصرية. غير أن هذه النخب – وخاصة في عالمنا العربي – هي التي كان تصيبها عدوى التضليل قبل عامة الناس، فتكرر الوقوع في حبائل الاستعصاءات الأيديولوجية للفئات الفاشلة التي سبقتها، مع التوهم بتغيير أسماء المطبات السياسوية عينها. فالانتقال مابين أنات الزمان لا يحتّم نشوء تعارضاتٍ جذرية بين أضداد الأحوال، بل كثيراً ما كان مجرى الأمور مغايراً تماماً لكل توقعاتها المتقاربة أو المؤجلة. فإن حقبة السيطرة الدينية في مختلف تفرعاتها اللفظوية، وحتى الدموية منها أو الجهادية، ليست مرشحة للعب أدوار التأسيس بما يفوق أعمال الهدم والتدمير لما هو قائم. فالحركات الهيجانية قد تتوهم أنها ترفع شعارات التأسيس. بينما هي في واقع الحال إنما تعيد وتكرر أسباب الخرائب السابقة. وكأنها لم تكن من قبل أو من بعدُ. وفي عمليات التكرار التاريخية فإن الحصائل المنتظرة لن تكون إلا رواسب الحطام وحدها.
إذا تذكرنا أنه ليس في تاريخ الأمم الحية من هو ثابت جامد إلا كل عضو فاقد لحيويته، ومتحول إلى ما يشبه قصة أو أسطورة فقط، فلا شيء يمكن أن يحفظ له بعض قدسيته المتصورة سوى تحويله إلى نوع من حتمية مستبدة بفصيلة من أتباعها المصرِّين على تأبيدها.
إذا كان من طبيعة المجتمعات الإنسانية أنها قابلة للتغيير، وأن لها حراكها الذاتي الخاص الذي ينساق الأفراد في سياقه تلقائياً، سواء تفاعلوا معه أو تلكأوا دونه. فهذا يعني ببساطة أن إرادة التغيير ليست شأناً فردياً خالصاً. إنها الجماعة التي تجسد ديناميتها في المجال العام على شكل أنظمة سلوكية وقيم شاملة وتيارات فكرية متنوعة، وهي في جملتها إنما تنشئ كياناً معنوياً موازياً للوجود الجماعي، يكاد يلامسه ويتحد معه، خصوصاً خلال الأزمات السياسية منها تحديداً. فما لم تعرفه مجتمعات العرب المعاصرة، هو اكتشافها لطبيعة بنيانها المعنوي الموازي، هذا الذي يمكن اعتباره كذلك بمثابة وجودها المعرفي، وذلك منذ حقبة الخضوع لإرادة المحتل والمستعمر القادم من (العالم الأرقى). فلقد تجاهل المستعمر طويلاً هذا الوجود المعنوي المعرفي، فرض عليه محاولة التعويض الأمني من خلال نظام الحماية المعترف به دولياً، فما يعنيه هذا النظام هو الإقرار الحقوقي بانسلاب الشخصية المعنوية للمستعمر (بفتح الميم). ما ينوب عنه هو حاكمه أو حاميه. فإذا كان المستعمر قد اضطر إلى سحب جيوشه وإدارته من أوطان الآخرين، مع نجاح مرحلة التحرر الوطني خلال أواسط القرن الماضي، إلا أن سلطان الحماية لم يطرده أحد، بقي مترسباً في جذور المرحلة التالية لما بعد جلاء الأجنبي، والشروع في تأسيس الدولة الوطنية.
غير أن الاختراع المذهل في تطور البنية الحمائية، هو أن دول الغرب التي ابتكرت منذ القديم ومارست صيغاً مختلفة في تجاربها السياسية، لم تعد هي نفسها راغبة في استئناف هيمنتها المباشرة، لعلها تخلت عن مساكنة أتباعها في ظل دولهم المحكومة بالفشل المزمن. فقد عاف الأجنبي (الراقي) معاشرة ضحاياه، تركها تنتج أعطالها المتراكمة من مرحلة إلى أخرى. إلى أن أنضج الفشلُ المستنقعُ أفظعَ أوبئته من الدمويات الإجرامية ما لا يتصوره جنون الوحشية البدائية في منطلق الأزمان الغابرة. لقد تم إنجاز الشكل المتكامل لصيغة المحمية التي لا تستدعي نجدات كثيفة من وراء البحار، فالمستنقع الحقيقي هو المتكفل محلياً وعضوياً بإنتاج جراثيمه وحشراته. لا حاجة إذن لانتاج عقد الأفاعي من خارج أوكارها الطبيعية.
إنها مرحلة المحميات المحلية المتغذيّة بأعطالها (الوطنية) ذاتها، والمحكومة بحراسها وشياطينها الأهليين. كل ما يتبقى للمراقب البعيد هو أن يحصي الضحايا اليومية. فالدول العظمى أو الكبرى أتمت رسالاتها، منحت شعوب المحميات استقلالها، تركت لها كل ملكياتها المنظورة وغير المنظورة.
مع الفارق بين نموذج المحمية الأولى الممهدة والمصاحبة لبداية الاستعمار الغربي، وبين شكلها المعاصر في زمن التذرّر الفئوي (أو الجهادي) الحاضر والمتفشي اليوم أوسع فأوسع في كنف الدولة الوطنية المنهارة. فالحماة اليوم ليسوا دولاً كبرى أو عادية، إنهم التشكيلات شبه الكتلوية والشخصانية. لكنها تفترض اندلاع أشقى المجازر والمهالك فيما بينها. إنها عصابيات عابرة للحدود، وللظروف، وشأنها هو تجزئة المجزأ وتقسيم المقسم، إنها المحميات غير المتصالحة فيما بينها أبداً، بل هي الضامنة لصراعاتها الهالكة المهلكة. وظيفتها اختلاق الفوارق بين المتشابهين وتنمية الشقاق بين أقرب المقربين.
فمن بداية الاستعمار الأجنبي، انطلقت بنية المحمية لتغدو هي النواة الوحيدة المتوفرة لتنمية أشكال ما يُسمّى بالهيئات العامة.. وفي نهاية المسيرة لما بعد الاستعمار التقليدي، تسلمت المجتمعات الأهلية المحلية وظائف الدول الكبرى لتنتج أضيق التكوينات شبه العمومية كبدائل عن صيغ الأمم والشعوب والمجتمعات.
خارطة المشرق العربي لوحة سحرية من بقع المعسكرات المقيمة والمترحلة، إنها تجسيم مخيف، سريالي، لجغرافيته، لن يتبقى بعدها ثمة تاريخ آخر له اسم وعنوان وزمان..
التعليقات