يوسف مكي

التطور الجديد لمفهوم الهوية، في مقولة "قوة الأمة في وحدتها" لا يعني بالضرورة تحقيق وحدة اندماجية بين الأقطار العربية، إذ لا تناقض بين الهوية الوطنية، وهوية الأمة

&


تأثر المشروع النهضوي العربي، في رؤيته للهوية، بنتائج الحرب العالمية الأولى، وبشكل خاص اتفاقية وعد بلفور. فقد أسست سايكس- بيكو لقيام الدول القطرية في بلاد الشام، ووضع هذا الجزء من المشرق العربي، تحت الهيمنة الفرنسية والبريطانية، وقد نظر إلى وعد بلفور، كعنصر لجم حاسم لأي تطور تنموي موضوعي بالبلدان العربية.
ومن هنا، انطلق دعاة مشروع النهضة، الذين قادوا الكفاح ضد السلطنة العثمانية، ومن ثم حملوا على عاتقهم مسؤولية التصدي لتبعات سايكس – بيكو ووعد بلفور، على أنها الهوية الجامعة لأفراد ينتمون إلى جغرافيا، تمتد من الخليج إلى المحيط، يجمعهم أنهم ناطقون بالعربية، وينتمون إلى جغرافيا وتاريخ مشتركين.
وقد تم النظر بشكل عدائي وصريح إلى ما عداها من الهويات الأخرى، بما في ذلك الهويات الوطنية. فمن وجهة النظر هذه، فإن الدول الوطنية هي نتاج مشروع التجزئة. وعلى أساس هذه النظرة تشكلت حركات وأحزاب سياسية، تقف موقفا عدائيا من الدولة الوطنية العربية، منفعلة بإفرازات ما حدث في بلاد الشام، ومعممة ذلك على بقية بلدان الوطن العربي.
نظر المشروع النهضوي إلى أن المجتمعات العربية، هي مجتمعات كسيحة وعاجزة عن الاضطلاع بمشاريع التنمية ونقل المجتمع العربي، ليكون في مصاف الأمم الراقية. وتم النظر إلى الوحدة العربية، كمفتاح لمعالجة كل المشاكل. وأن تحقيقها يتم من الأسفل إلى الأعلى، نتيجة تلاقح بين حركات التحرر التي قادت الكفاح ضد الاحتلال.
وسكن في يقين الكثير من المفكرين العرب، أن النهوض يتحقق بالاندماج التام، وأن ليس هناك ما يمنع العرب من تحقيق ذلك، طالما يجمعهم التماثل في الثقافات والعادات والمصالح.
لكن التطور التاريخي أثبت عدمية هذه النظرة، وحتمية تجاوزها من قبل رواد الفكر العربي، إذا ما أرادوا لهذه الأمة التقدم والنماء. فالبلدان العربية، لم تتشكل في معظمها بإرادات خارجية، كما كان ينظر له، منذ بروز نتائج الحرب العالمية الأولى إلى نهاية الستينات من القرن المنصرم. فكثير من هذه البلدان هي من صنع التاريخ، ومضى على بعضها، بسياقها الحالي، آلاف السنين. كما هو الحال مع مصر وتونس.
يضاف إلى ذلك، أن التجارب التاريخية أكدت أن الوحدات السياسية تأتي لتلبي الحاجة لواقع موضوعي، وأن المجتمعات الإنسانية لا تتماثل حتى وإن جمعتها لغات وثقافات مشتركة. إن وجود لغات وثقافات مشتركة هي عامل مساعد، لقيام وحدات سياسية واقتصادية، ولكنها بمفردها لا تحتم تحقيق ذلك. ثم إن اعتبار الاندماج شرطا لمعالجة التخلف والانطلاق للبناء والتنمية ليس أكيدا، لأن التفاعل يتم بين أجزاء صحيحة، وليست عليلة.
إن مثل هذا الطرح، يعفي الدولة الوطنية من مهامها التاريخية، ويقدم المبررات لتصيرها في أداء مهامها، نظر لها بأنها لن تكون قادرة على تحقيق مهام النهوض إلا في ظل دولة الوحدة.
ووفق هذه النظرة النقدية لرؤية المشروع النهضوي للهوية، تم النظر إلى الدولة الوطنية كهوية جامعة، وليس مجرد هوية فرعية.
إن ذلك يفترض فيها أن تنهض كدولة مستقلة بمجتمعاتها على الأصعدة كافة، وأن تلبي حاجة مواطنيها من صحة وتعليم وسكن وأمن ورخاء، وتأمين مستلزمات الدفاع عن الوطن، ما يستوجبه ذلك من بناء جيش قوي وأجهزة أمنية حديثة، وما إلى ذلك من مستلزمات بناء الدول الحديثة.
نظرا إلى العلاقة بين بلدان الأمة على أنها تكاملية، إذ يعج الوطن العربي بطاقات حية وثروات مختلفة وقدرات بشرية متباينة، من ناحية التعداد والخبرات، بما يعني أن التكامل بين هذه القدرات من شأنه أن يوجد كيانا عربيا قويا، بما يلغي مقولة التماثل.
هذا التطور الجديد لمفهوم الهوية، في مقولة قوة الأمة في وحدتها، لا يعني بالضرورة، تحقيق وحدة اندماجية بين الأقطار العربية. فما تحتاجه الأمة، هو تلبية حاجات الناس ومتطلباتهم واستحقاقاتهم في الحرية والكرامة.
وفي هذا السياق، جرى التنظير لنظام عربي، لا مركزي، يتجه نحو أنموذج سياسي عملي وواقعي، يستلهم من نماذج الاتحادات الكونفدرالية، التي شهدها العصر الحديث، إذ لا تناقض بين الهوية الوطنية، وهوية الأمة، بل تكامل وتفاعل بينهما، فيغدوان مصدر قوة وحيوية للأمة بأسرها.
ويمكن أن يتحقق هذا النوع من الكونفدراليات بشكل تدرجي، يشمل القضايا الأساسية المرتبطة بالحاجات اليومية للبشر. فيكون البدء على سبيل المثال، بالوحدة الاقتصادية، وبتوحيد الأنظمة الجمركية، والكهرباء، ومد السكك الحديدية، واستكمال ما بقي من خطوط المواصلات البرية والجوية. ويتم ذلك أيضا، من خلال إحياء معاهدات واتفاقات وقعها القادة العرب في شؤون الأمن والدفاع، وبقيت لعقود عدة دونما تفعيل، كمعاهدة الدفاع العربي المشترك والأمن القومي العربي الجماعي.
ولعل متابعة تجربة الاتحاد الأوروبي، تشكل خيارا ملهما في هذا السياق. فقد حلق هذا الاتحاد بجناحين، اقتصادي وعسكري. وكانت البداية هي استفادة بلدان أوروبا الغربية، من مشروع مارشال، والتعاون المشترك بين فرنسا وألمانيا في مجالي الحديد والصلب، وانخراط معظم دول أوروبا الغربية، في حلف عسكري مشترك، هو حلف الأطلسي. وقد هيأ هذان الجناحان لقيام السوق الأوروبية المشتركة، ثم قيام الوحدة الأوروبية.
هذا المنظور هو تطور نوعي جديد لمفهوم الهوية، لدى دعاة المشروع العربي النهضوي. وهو تطور نوعي، يأتي استجابة للتطور التاريخي، وتطور وعي شعوب المنطقة، بحقائق العصر، التي تتجه بثبات نحو اقتصادات الأبعاد الكبيرة، والكتل التاريخية. وهو وعي يضعنا على السكة الصحيحة، وفي المكان اللائق من خارطة التطور البشري، بما يحقق صبوات الجميع في مجتمع عربي قوي ومتطور، يكون الإنسان العربي عماده وركنه الأساس.

&