محمد خروب
&
أربع سنوات انقضت على «هروب» الجنرال المستبد والفاسد بن عليّ، ولم يلتقط التونسيون انفاسهم بعد، إلاّ انهم نجحوا في درء مخاطر الفتنة عن بلدهم وتوافقوا على صيغ مقبولة من الاغلبية، رغم مطاطيتها وعموميتها وحمّالة أوجه عديدة، لم تكن لتسهم في ردع المتطرفين والمتعطشين الى السلطة واولئك ايتام النظام المخلوع، لولا المصادقة على الدستور الجديد الذي اعطى ضمانات للجميع، ولم يكن مُفصّلاً على قياس حزب او حركة او تيار او جبهة، على النحو الذي يحدث في بلدان عربية عديدة تنهض بمهمة تجويفها وتحويلها الى مجرد نصوص بلاغية يصعب الاتكاء عليها او التخندق خلفها، لإحقاق الحقوق وإنفاذ العدالة، نقول: تنهض بها مجموعة من المتزلفين ووعاظ السلاطين والانتهازيين وحارقي البخور، لا همّ لهم سوى ارضاء الحاكم وبطانته.
&
لم يقع التوانسة في الفخ، رغم المحاولات التي بذلتها «حركة النهضة» بعد انتصار ثورة «14 جانفي»، ودعوتها الحركات السلفية والجهادية للتحالف معها والثقة بها وتخفيف نبرتها الى ان تستقيم الأمور ويصبح القرار «الأخير» في يدها، بعد ان كانت ضمنت قسماً كبيراً من هذا القرار، عندما جاءت بدميتين، واحدة الى رئاسة الجمهورية واخرى الى البرلمان المؤقت وأسلمت قيادة المعركة الى شخصية «نهضوية»، لا ضرر إن كان على رأسها حمّادي الجبالي الرجل الثاني (والقوي) فيها، أم تمت اطاحته واجباره على الاستقالة للإتيان بوزير الداخلية (البوليسي) عليّ العريض، الذي وخلال تسلمه وزارة الداخلية، اغتيل النائب والمعارض الابرز في الجبهة الشعبية شكري بلعيد، وبعد اشهر معدودات سقط المناضل الناصري والنائب محمد البراهمي برصاص حلفاء النهضة من التكفيريين والجهاديين الذين تعرفهم اوساط وزارة الداخلية وكوادرها معرفة عميقة، قبل ان ينقلوا مقر قيادتهم الى جبل الشعانبي ويعلنوا حرباً على القوى السياسية والحزبية الوطنية والتقدمية واليسارية، وقد تكشفت الحقائق في النهاية عندما تم توجيه اتهام لأحد ضباط الأمن في وزارة الداخلية كان على علاقة وثيقة «بالخلية» التي اغتالت الشهيدين بلعيد والبراهمي.
&
لم تكن السنوات الاربع التي انقضت, سنوات راحة أو هدوء على التوانسة, بل تخللتها عواصف وفوضى وعنف، كادت تضع البلاد على حافة حرب أهلية, بعد أن ابدت «النهضة» تعنتاً وارادت ان تُحكم قبضتها على السلطة وتواصل إقصاء الاخرين, تحت ذريعة الاغلبية ووهم التأييد الشعبي الذي افرزته صناديق الاقتراع الاولى (بمعنى تلك التي تلت فرحة اطاحة نظام بن علي وبروز النهضة كأكثر الاحزاب او الحركات او الحركات، نشاطاً واتكاء على مظلومية استثمرتها طويلاً وكثيراً لدى بسطاء الشعب التونسي).. لكن «الحدث» المصري وسقوط حكم الاخوان المسلمين المدّوي, قلب حسابات الغنوشي وجماعته – رغماً عنهم وليس قناعة أو ايماناً بقواعد اللعبة الديمقراطية – ودفعهم للخضوع الى مطالب الشعب وقواه الحية، وأوعز لرئيس الحكومة علي العريض بالاستقالة مفسحاً المجال لحكومة كفاءات وطنية برئاسة مهدي جمعة كي تملأ الفضاء الحكومي وتهيئ الاجواء لانتخابات برلمانية ساخنة وضعت حركة النهضة في مكانها الصحيح (الثاني) وأجبرتها على الاعتراف بأن ما كان لها بعد الثورة مباشرة، لن يكون لها بعد نيف وثلاث سنوات من عمرها, الامر الذي اثار المخاوف باحتمال عودة نظام بن علي بعد أن نجح حزب نداء تونس بالجلوس في المقدمة, متقدماً على النهضة بسبعة عشر مقعداً, لكن النهضة اراد تعويض هذه الانتكاسة، فراهنت على رجلها الدمية, الذي لم يستطع ملء المقعد الرئاسي ونقصد هنا المنصف المرزوقي الذي تصرّف سياسياً «خارجياً» برعونة وداخلياً بشعبوية هابطة ولم يخرج للحظة عن الخط الذي رسمته له النهضة, ما أوصله – والنهضة التي راهنت عليه رغم ادعائها الحياد – الى مربع السقوط, عندما فاز عليه الباجي قائد السبسي، وأجبره على ترك قصر قرطاج الى صحراء السياسة ربما, لأنه فقد مستقبله السياسي أو يكاد, رغم تأسيسه حزباً على انقاض بقايا حزبه المتصدع والذي لا يتمتع بأي مقعد في مجلس النواب الجديد.
&
تونس... ربما تكون وحدها التي نجت من دائرة العنف والاحتراب الداخلي واشباح التقسيم التي اطلقتها رياح ما يسمى بالربيع العربي, الذي امتطته حركات الاسلام السياسي بايعاز من الغرب الامبريالي ورعاية من السلطان العثماني الجديد اردوغان, كان الاخوان المسلمون في مقدمتهم، ظناً منهم انهم قد اسندوا ظهورهم الى «حائط» الاستعمار الغربي «القوي», لكنهم (كعادتهم) تجاهلوا ارادة الشعوب العربية وقدراتها وما تستطيع اجتراحه في هذا الزمن العربي الصعب والرديء, فكان ان وصلوا الى حال الافلاس السياسي والاخلاقي، وانكشفت ألاعيبهم ولم تكن وقائع الايام المصرية وتلك السورية سوى الدليل «الأفدح» على الدرك الذي استقروا فيه.