آمال موسى
&
تحول الإرهاب اليوم في تونس من ظاهرة طارئة إلى مكون من مكونات المشهد العام التونسي؛ بل إنه مكون أساسي قادر على إعادة تشكيل الخريطة السياسية وإسقاط شخصيات ذات مواقع حساسة.
&
وبذلك يكون الإرهاب قد أصبح فعلا عنصرا فاعلا في الحياة السياسية والأمنية والاقتصادية في تونس ما بعد الثورة. مع العلم بأن تحوله إلى مكون فاعل جرى تدريجيا، وهو في تزايد نوعي. ولا أدل على ذلك من تسببه بشكل مباشر في إسقاط حكومتين والإطاحة بجنرالين في الجيش التونسي.
&
المشكلة أنه رغم تعدد أحداث الإرهاب في تونس، فإن المخيال التونسي ما زال لم يستوعب بشكل جيد أن الإرهاب قد بات حقيقة تشمله كما تشمل غيره من البلدان والشعوب. فالمخيال التونسي يرفض على ما يبدو، في الظاهر على الأقل، استيعاب أن الإرهاب تونسي أيضا، وأن هناك تونسيين إرهابيون يعتقدون في الفكر السلفي الجهادي التكفيري.
&
لذلك، فإن التونسي لا يزال تحت وقع الصدمة، وذاكرته لم تخزن إسهامات بعض التونسيين في عمليات إرهابية كبرى هزت العالم، أي إن الذاكرة الجمعية للتونسيين كأنها ترفض في اللاوعي تخزين إشارات قوية مثل مشاركة تونسي في قتل الأفغاني أحمد شاه مسعود يوم 9 سبتمبر (أيلول) 2001؛ أي قبل يومين فقط من تفجيرات 11 سبتمبر 2001 التي يقال أيضا إن للتونسيين دورا فيها. كذلك مشاركة عناصر تونسية في تفجيرات مدريد 2004، وإلقاء القبض على خلية إرهابية في ميلانو ينتمي إليها تونسيون، إلى جانب انضمام شباب تونسي إلى تنظيم «داعش»، دون أن ننسى محاولة إيذاء تونس من خلال ما عُرف بـ«أحداث سليمان 2006»، وقبلها تفجيرات الغريبة في جربة 2002.
&
النقطة الثانية المثيرة للانتباه، تتمثل في أنه ليس فقط قطاعات واسعة من الشعب التونسي تستشعر وجود مسافة تفصلها عن الإرهاب؛ بل إنه حتى النخب التونسية التي هي جزء من الشعب وحاملة مثله، بطبيعة الحال، للمخيال نفسه حول الإرهاب، لم تستطع رغم «نخبويتها» وقدرتها على قراءة الواقع الخاص والعام والداخلي والخارجي، إعادة تشكيل مخيالها.. لذلك لم يكن الإرهاب من أولوياتها ولا في برامجها إلى أن داهمها بحكم قوة تسربه في الواقع التونسي الراهن.
&
والغريب أيضا أنه عندما كان «أنصار الشريعة» ينشطون في تونس، فإن الغالبية صدقت شعارهم القائل إن «تونس أرض دعوة وليست أرض جهاد»، وكأن الدعوة ذاتها ليست جوهر الجهاد وأقوى آلياته؛ أي إنها فعل جهادي مركزي أساسي.
&
لم يتفطن التونسيون، شعبا ونخبا، إلى أن الإرهاب حقا قد أقام له دارا في تونس إلا بعد أن بدأت الاغتيالات السياسية مع اغتيال الشهيد شكري بلعيد، وبعد أشهر اغتيل الشهيد محمد البراهمي. نتج عن الاغتيال الأول الإطاحة برئيس أول حكومة بعد انتخابات المجلس الوطني التأسيسي التي انعقدت في 23 أكتوبر (تشرين الأول) 2011، السيد حمادي الجبالي. وعند حصول الاغتيال الثاني، سقطت حكومة علي العريض التي اضطرت إلى الاستقالة والقبول بحكومة كفاءات وطنية التي يترأسها حاليا السيد مهدي جمعة.
&
أيضا يمكن القول إن الأحداث الإرهابية بشكل ما كانت وراء إطاحة أو انسحاب رئيس أركان الجيوش الثلاثة السيد رشيد عمار، ولقد ظل منصبه شاغرا إلى حد الآن، وتم الاكتفاء بتعيين السيد محمد الحامدي الذي اضطر إلى الاستقالة في الأسبوع الماضي وذلك بوصفه رئيسا لأركان جيش البر.. ذلك أن الشهداء الذين سقطوا ضحية الإرهاب يعدون بالعشرات، ويندرج ذلك طبعا ضمن استهداف الإرهابيين لما يسمونه «الطاغوت» الذي يمثله في نظرهم رجال الأمن والجيش.
&
ويمكننا في ضوء ما تقدم من معطيات أن نستنتج أن الإرهاب في تونس أصبح اليوم قادرا على إعادة تشكيل المشهد السياسي، وقد بدأ التفطن إلى هذه النقطة؛ إذ انتبهت النخب السياسية التونسية إلى أن تصاعد وتيرة الإرهاب مرتبط أيضا بخطة إرهابية تهدف إلى إفشال حدث الانتخابات التشريعية والرئاسية التي ستنطلق في أكتوبر المقبل.
&
طبعا مسألة الاستقالة، سواء كانت حكومة أو أشخاصا، هي في عرف الإرهابيين تمثل نجاحا خارقا وفرضا للأمر الواقع. كما أنها بالنسبة إلى الرأي العام التونسي تشكل دليل فشل سياسي وأمني للذين مروا على سدة الحكم في تونس ما بعد الثورة.. وهو ما يبدو أن الأحزاب السياسية التونسية قد استوعبته جيدا، أي إن محاربة الإرهاب باتت اليوم المضمون الأقوى والأكثر أولوية لبناء ما يسمى المشروعية السياسية للحكم.. أي إن من يطمح إلى الفوز في الانتخابات المقبلة، عليه أن يختلي بنفسه في حوار صريح حول برنامجه العملي والقريب المدى لمحاربة الإرهاب وتجفيف منابعه، ومدى قدرة أي حزب على معالجة الإرهاب والاقتصاد معا، لأن مسؤولية الفائز في الانتخابات المقبلة ستكون بمثابة التكليف الثقيل، فلم يعد اليوم الاقتصاد ومشكلة التشغيل وانهيار الدينار التونسي فقط المشاكل العويصة، بل الإرهاب على رأس القائمة مع تداعياته الإضافية على المشاكل المذكورة.