رغيد الصلح

قبل أن تخرج فرنسا من فاجعة "شارلي إيبدو"، وقبل أن تجف دماء ضحايا هذه المجزرة، انطلقت في "إسرائيل" حملة عنيفة ضد فرانسوا هولاند، رئيس الجمهورية الفرنسية، وضد النخبة الفرنسية السياسية . الحملة ضد هولاند استندت إلى ثلاث "خطايا" ارتكبها الرئيس الفرنسي: الأولى، هي أنه حاول، كما رددت بعض المصادر الإعلامية، إقناع رئيس الحكومة "الإسرائيلية" بنيامين نتنياهو بعدم الاشتراك في المسيرة الكبرى التي نظمت في باريس يوم الأحد الفائت استنكاراً للمجزرة . الخطيئة الثانية هي اهتمامه الكبير باشتراك الرئيس الفلسطيني محمود عباس في المسيرة . الثالثة - التي اعتبرت أعظم الخطايا - هي إصرار هولاند على القول إن مجزرة "شارل إيبدو" لا علاقة لها بالإسلام، وتكراره التمييز بين الإسلام والإرهاب .


رداً على هذه الخطيئة الأخيرة، تساءل صهاينة كثيرون منهم مايكل فرويند، أحد المعلقين في صحيفة "جيروزالم بوست" الوثيقة الصلة بحزب ليكود: من هو هولاند لكي يعتبر نفسه يملك الكفاءة والحق في التمييز بين الإسلام الصحيح والإسلام غير الصحيح؟ وأضاف قائلاً "إنه قد يكون القائد العام للقوات المسلحة الفرنسية ولكنه ليس رئيساً لفقهاء الدين وأئمته" . هذا التساؤل انطوى على مفارقة لافتة للنظر . إن هولاند رئيس جمهورية فرنسا التي تضم ما لا يقل عن أربعة ملايين مسلم . أي أن الإسلام هو الدين الثاني بعد المسيحية . وفرانسوا هولاند، من حقه، بل من واجبه أن يتصدى لأي اتهام أو أي ظلم معنوي أو مادي يرتكب ضد المواطنين والمواطنات الذين يحملون الجنسية الفرنسية، ولأي معتقد ديني يعتنقونه، سواء كان المسيحية أو الإسلام أو اليهودية أم غيرها من الأديان . إن هولاند لا يستطيع أن يتحدث باسم سائر المسلمين، ولا أن يدعي مكانة لا يستحقها . ولكنه يستطيع أن يتحدث باسم الفرنسيين المسلمين الذين يعيشون في ظل نظام ديمقراطي، ويشاركون في اختيار قادته . رغم ذلك، فإن هولاند لا يحق له، كما يرى بعض الصهاينة، تبرئة الإسلام وعموم المسلمين من دماء ضحايا المجزرة! أما هؤلاء الصهاينة، فلهم الحق، ملء الحق في أن يستنتجوا العكس وأن يربطوا بين الإسلام والإرهاب، بل إن يقرّعوا زعماء الغرب إذا لم يقبلوا بهذا التوصيف الجائر! كذلك يحق لهم أن يذهبوا في تفسير موقف زعماء الغرب "المريب" و"المتخاذل" تجاه الإسلام إلى أبعد مدى .


هذه المواقف التي يتخذها الزعماء الفرنسيون على مر الزمن والرئاسات لا تعكس، في نظر فرويند وصحبه، مواقفهم الشخصية، بل تعكس نهجاً عاماً يطبع النخبة الفرنسية عموماً . وتقييم فرويند له أهميته لأن أصحابه - أي أصحاب هذا الرأي - نشأوا وترعرعوا في المدرسة نفسها التي تخرج فيها نتنياهو وتخرج فيها زعماء ونشطاء العديد من الأحزاب التي تتشكل منها الحكومة "الإسرائيلية" الحالية . فرويند نفسه كان ناشطاً فيها مما أهله لكي ينضم إلى مكتبه ويعمل في مجال الإعلام والاتصالات فيه . تستقي هذه المدرسة نظرتها إلى الغرب من تعاليم فلاديمير جابوتنسكي، ومن مساهمات المفكرين التحريفيين الصهاينة .


ولقد تبلورت هذه التعاليم على مراحل كان من أهمها الفترة التي توطدت فيها علاقته مع نظام موسوليني خلال الثلاثينات . ومن السهل أن يجد المرء في تعاليم جابوتنسكي، ومن ثم في مواقف وسياسات وسلوك أتباعه وأعوانه بقايا تفكير مدرسة موسوليني الفاشية . وكان أبا اهيماير واحداً من البارزين بين هؤلاء، واشتهر بأمرين: الأول هو أنه لعب دوراً مهماً في تلقيح مدرسة الصهاينة التحريفيين بنظرات الفاشيين المعادية للغرب . من ذلك كانت النظرة الاستعلائية حيناً والعدائية حيناً آخر للغرب ولماديته، ولتقديسه للحريات الفردية . لقد كان موسوليني ينتقد دول الغرب لتساهلها تجاه الإصلاحيين والمغايرين، ويمجد القوة ويروج لاستخدامها ضد الخارجين على الدولة المركزية . ورغم أن دول الغرب لم تكن تتساهل في مسألة الوحدة العضوية للمجتمع، ولا كانت تتساهل مع الأعراق والإثنيات الأخرى، ولكنها بالمقارنة مع موسوليني كانت تفرّط في وحدة الدولة ووحدة المجتمع . ولم يكتم أبا اهيماير، الصهيوني المتطرف موقفه المتعاطف مع الصهيونية والنازية حتى إنه كان يصف نفسه في بعض كتاباته علناً بأنه فاشي، بينما ذهب المحامي الذي دافع عنه في إحدى المناسبات بأنه هو وصحبه لم يناهضوا في أفكار هتلر إلا معاداته للسامية، أما ما عدا ذلك فإنه "كان على صواب"! .


الأمر الثاني الذي عرف عن أبا اهايمر الذي كان مقرباً من جابوتنسكي، هو أنه كان من الذين أثروا كثيراً في بنزيون نتنياهو، والد رئيس الحكومة "الإسرائيلية" . لقد عرف عن بنزيون التطرف الشديد خاصة عندما كان سكرتيراً لجابوتنسكي ورئيساً لتحرير صحيفة بيتار الناطقة باسم تياره . وعند بنزيون أن العربي هو "عدو موضوعي لليهود" ولذلك لا مكان للمساومة معه . هذا الموقف يملي على "الإسرائيليين" وعلى حلفائهم في الغرب - إذا كانوا حقاً من الحلفاء - أن يخوضوا حرباً لا تنقطع وحتى النهاية ضد العرب . ومن مقتضيات الحرب الناجحة ضد الفلسطينيين والعرب، في رأي بنزيون، هي أن ينزل "الإسرائيليون" بهم ما لا يطاق من الآلام والأوجاع حتى يكفوا عن مقاومة المشروع الصهيوني . هذا يتطلب أيضاً إسكات كل الأصوات التي قد تتصاعد في الغرب ضد مغالاة "إسرائيل" في التنكيل بالفلسطينيين وبالعرب، وإسرافهم في قمعهم والنيل من حقوقهم وأمنهم .


ساهم والد رئيس حكومة "إسرائيل" في الترويج لهذه الأفكار والنظريات المعادية للعرب وللغرب معاً، فكان بنيامين خير تلميذ له ولمدرسته . وما دام نتنياهو وصحبه يحكمون، فإن "إسرائيل" لن تكف عن تحريض الغرب ضد العرب وضد المسلمين، وعن خلق الأجواء المناسبة لشن المزيد من الحروب ليس ضد الإرهاب، وهذا ما تريده الأكثرية الساحقة من العرب، وإنما ضد العرب والعروبة، وضد الإسلام والمسلمين، وهذا ما يريده نتنياهو وحلفاؤه في "إسرائيل" والغرب . المهم هنا ألا يساعد البعض في البلدان العربية نتنياهو وصحبه على تحقيق أغراضهم وأهدافهم .