&كرم سعيد

&

&

&

&

&


&

&

تحولات جديدة تشهدها السياسة الخارجية المصرية، خصوصاً في مرحلة ما بعد30 حزيران (يونيو) ووصول الرئيس عبدالفتاح السيسي إلى سدة السلطة، على نحو يفرض اختلافاً في طريقة أداء هذا الدور، تبعاً للمآلات والمسارات التي تفرضها المصلحة المصرية في دوائرها الاستراتيجية، بما يكفل الوصول إلى معادلة توازن تكفل تحقيق الاستقرار والمصلحة سواء في ما يخص تحالفاتها الإقليمية والدولية، أو نمط علاقاتها الثنائية.

وخلافاً لما سبق تنطلق الرؤية المصرية في نظرتها الإقليمية والدولية من مرتكزات عدة يعتمد عليها صانع القرار المصري في اتخاذ قراراته وإصدار تصريحاته في ما يتعلق بالسياسة الخارجية، والتعامل مع المشهد الدولي والإقليمي الساخن والمتسارع، وفي مقدمها الموروث الثقافي، والتاريخي وكذلك الديني من منطلق كونها بلد الأزهر منارة المذهب السّنّي في العالم، ناهيك عن الوزن الإقليمي والدولي للقاهرة.

وراء ذلك مرتكز المصلحة، فعلى رغم كل الخطاب القيمي والتصالحي الذي يتبناه أحياناً النظام المصري في شأن علاقاته القلقة مع بعض الدول مثل تركيا، وما يرفعه من شعارات في هذا الصدد، تبقى البراغماتية هي العامل الرئيسي الحاكم لعملية صنع القرار، واتخاذه في إطار هذا النظام، وكان بارزاً، هنا، رفض النظام في مصر الانسياق وراء تجاوزات الرئيس التركي الذي يصف ما حدث في 3 تموز (يوليو) 2013 بالانقلاب العسكري.

صحيح أن أولوية مرتكز المصلحة أحد الثوابت الجوهرية في عملية صنع السياسة الخارجية للدول والأنظمة كافة على اختلاف اتجاهاتها وتوجهاتها، إلا أن السياسة الخارجية في مصر ظلت على مدار عقود مقيدة بمصالح النظام أو الجماعة بعيداً من مصالح الدولة الوطنية.

في هذا الإطار انتقلت السياسة المصرية من تركيز النشاط على إنتاج ردود أفعال إلى تنوع خياراتها في علاقاتها مع محيطها، بدءاً بتوثيق التحالف مع الدول الصديقة ومروراً بإعادة صوغ العلاقة مع دوائر إقليمية ودولية، وانتهاء باحتواء التوتر أو الاشتباك المصلحي مع أزمات محيطها الإقليمي.

وتلمح التطورات الحاكمة للسياسة الخارجية المصرية طوال الفترة الماضية إلى تغيرات عميقة وجوهرية، فثمة تغير دراماتيكي في مرتكزات السياسة الخارجية المصرية، بخاصة في ما يتعلق بتعظيم دور مصر الإقليمي والدولي، ولكن بعيداً من الانخراط في الانحيازات الطائفية أو التشاحن مع قوى دولية يبدي النظام المصري رغبة في استقلال أكبر عنها.

وثمة ملامح تعبر عن التغيرات التي شهدتها السياسة الخارجية المصرية طوال الشهور التي مضت أولها تمتين العلاقة مع القطاع المعتبر من الدول الخليجية، وفي الصدارة منها الإمارات والسعودية والكويت، فضلاً عن الانخراط في جهود تهدئة التوتر مع الدوحة. وكشفت الاستثمارات الخليجية، وأوجه الدعم لنظام الحكم في القاهرة عن مناخات الود وذلك خلافاً لما كانت عليه الحال طوال عام 2012 - 2013، فالتوتر كان العنوان الأبرز في علاقات مصر وعدد معتبر من دول المحيط العربي، وفي مقدمها الإمارات العربية المتحدة والسعودية وسورية والأردن، إضافة إلى غياب الحد الأدنى من التفاعل والتعاون مع شمال أفريقيا.

ووصل الاحتقان الذروة في آب (أغسطس) 2012، بعد التلاسن الشهير بين ضاحي خلفان مدير شرطة دبي والمتحدث باسم الجماعة محمود غزلان، ووصل الأمر إلى ذروته بعد احتجاز الإمارات عدداً من المصريين بتهمة تشكيل خلية إرهابية تسعى إلى الإضرار بالأمن القومي للبلاد.

واليوم تحقق القاهرة نقلة نوعية في مسار علاقاتها الخليجية، وبدا ذلك واضحاً منذ اتفاق المصالحة الخليجي الذي جرى في رعاية خادم الحرمين الشريفين الذي أكد أن دعم دول الخليج لمصر قضية محسومة، فضلاً عن غلق قناة «الجزيرة مباشر».

خلف ما سبق نجحت القاهرة في استعادة دورها التاريخي في ما يخص القضية الفلسطينية، فاستضافت في 12 تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، مؤتمر إعادة إعمار غزة، بهدف تثبيت أسس اتفاق وقف النار بين الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني، والذي تم التوصل إليه في آب الماضي، إضافة إلى توفير الدعم الدولي لإعادة إعمار قطاع غزة، وذلك في إطار من تحقيق التنمية المستدامة في فلسطين.

على صعيد ذي شأن تدفع مصر بكل جهودها من أجل التوصل إلى حل سياسي للأزمة الليبية باتجاه دعم السلطة الشرعية، فضلاً عن محاولة حل الأزمة السورية عبر جمع كل أطياف المعارضة في الخارج والداخل السوري، وبينما كان النظام السابق يعزف على وتر الجهاد في سورية تبقى السياسة الخارجية الراهنة ترعى الأبعاد المصلحية، فضلاً عن أخذ مسافة بعيداً من الخلافات المذهبية والعرقية التي تزيد من سخونة الحالة السورية المعقدة والمتشابكة.

&

العلاقات الدولية

وتمثل التغير الثاني في إعادة صوغ العلاقة مع القوى الدولية، وإعادة هيكلة لتوجهات مصر الخارجية تجرى الآن بطريقة تجعلها أكثر استقلالية، وكان بارزاً، هنا، قطع شوط معتبر على الصعيد العلاقة الاقتصادية مع موسكو ومن ورائها بكين، وخلافاً لما كانت عليه الحال زمن مبارك الذي كان يؤمن كسلفه بأن 99 في المئة من أوراق إدارة المشهد العالمي بيد واشنطن لا غيرها.

لم يكد يمضي أقل من أربعة أشهر على زيارة السيسي روسيا في 12 آب الماضي، وتوقيعه مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين على اتفاقات اقتصادية وعسكرية، حتى زار السيسي الصين في 22 كانون الأول (ديسمبر) الماضي، حيث وقع البيان المشترك لإقامة علاقات الشراكة الاستراتيجية الشاملة بين البلدين، وهو مستوى لا تمنحه بكين إلا لعدد محدود جداً من الدول في العالم.

وشهدت العلاقات بين القاهرة وموسكو وعواصم أوروبية أخرى زمن مبارك ومرسي نوعاً من الفتور أو التقارب الحذر، وارتبط ذلك بعوامل عدة، منها توجهات القيادة السياسية زمن مبارك و «الإخوان»، والثاني يتعلق بحجم الارتباطات الدولية والإقليمية لكل طرف. إلا أن المرحــلة الحالية تقدم نموذجاً معاكساً، يتمثل بتطور التعاون السياسي والاقتصادي بينهما. وتعكس مسيرة السياسة الخارجية المصرية على مدار الأشهر الثماني الأخيرة بوضوح هذا التوجه.

أما في ما يتعلق بإسرائيل، فيبدو أن السياسة الخارجية لمصر لا تختلف الآن عما قبله، فما زالت تحافظ على انتظام التعاون الاقتصادي والأمني مع الدولة العبرية، ولم تلجأ إلى أية إجراءات استفزازية حيالها. وعلى النهج السابق نفسه تصون القاهرة معاهدة السلام بالتزام وحرص شديدين، ويظل إعطاء دفعة للعلاقة مع تل أبيب رهناً بتقدم ملموس على صعيد القضية الفلسطينية، خصوصاً إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، وعاصمتها القدس.

على الضفة الأخرى من النهر، كشفت السياقات السياسية والمجتمعية عن دور مختلف للسياسة الخارجية المصرية تجاه عمقها الأفريقي، بعد أن ظلت العلاقة مع القارة السمراء طوال عقود خلت تعتمد على المصالح المباشرة والآنية وتفتقر إلى الاستمرارية والموضوعية، الأمر الذي وسع البون مع أفريقيا، وسمح بحضور قوى إقليمية منافسة في صدارة المشهد الأفريقي، وفي مقدمها إسرائيل وتركيا.

ويلاحظ أن النظام في مصر يعتمد في حركته الأفريقية اليوم على كسب عقول الأفارقة وقلوبهم من خلال أدوات وآليات ديبلوماسيته الناعمة، وساعده في ذلك الرصيد التاريخي والحضاري للقاهرة في محيطها الأفريقي، لذلك تمارس مصر سياسة خارجية بناءة وحذرة وإيجابية مع كل من السودان وإثيوبيا ودول القرن الأفريقي.

وقطعت هذه السياسة شوطاً معتبراً على صعيد تهدئة التوتر المكتوم مع الخرطوم وأديس أبابا، وبدا ذلك في زيارة الرئيس عمر البشير القاهرة في 18 تشرين الأول الماضي، فضلاً عن لقائه رئيس الوزراء الإثيوبي هايلي ميريام ديسالين على هامش قمة الاتحاد الأفريقي في غينيا في حزيران الماضي، كما سيشارك الرئيس السيسي في أعمال القمة الأفريقية التي ستُعقد في أديس أبابا خلال الفترة من 29 إلى 31 كانون الثاني (يناير) الحالي.

وتعتمد السياسة الخارجية المصرية في تجاوزها أزمة «سد النهضة» على ترطيب العلاقات، وبناء الثقة، وإيجاد حلول عبر التفاوض، من دون غض الطرف عن إبراز قوتها إذا تحول السد إلى وسيلة للإضرار المباشر بالحقوق التاريخية لمصر في نهر النيل.

خلاصة القول، إن السياسة الخارجية المصرية سارت في السنوات الأخيرة في طريق متعرج لم تعرف ملامحه بوضوح، غير أن المراقب الملامح والتطورات الأولية التي تكشف عنها السياقات السياسية تكشف عن دور مختلف للسياسة الخارجية المصرية تجاه محيطها الإقليمي والدولي، باتجاه الانفتاح عالمياً بعد مرحلة من الانكفاء والعزلة على ذاتها ومع واشنطن زمن مبارك وتركيا زمن مرسي. كما يتوقع أن تحافظ القاهرة على علاقاتها المحافظة أو التقليدية مع تل أبيب وواشنطن.

أما المفارقة الأهم في مسار إعادة هيكلة السياسة الخارجية المصرية، فتمثلت في اتجاه تطور وتعضيد دور وزارة الخارجية بعد أن ظلت لعقود طويلة مجرد سكرتارية للنظام السياسي الذي أضعف دورها، وسحب كثيراً من ملفاتها الرئيسية لمصلحة أجهزة بعينها أو تنظيم معين. وفي هذا الإطار لم يتعدَّ دور وزير الخارجية أكثر من كونه موظفاً ينفذ التعليمات الصادرة إليه من رأس النظام والدائرة الضيقة حوله، وليس صانعاً أو مشاركاً في صوغ هذه السياسات التي كانت لا ترعى خصوصية الواقع المصري أو تأخذ في الاعتبار آفاق المستقبل.
&