في الإرهاب وحرية التعبير.. هل هو صراع حضارات؟

زهير الحارثي

ما حدث في باريس يأتي ليؤكد أن بوصلة التطرف لا تعرف اتجاها واحدا بدليل انه ضرب الإسلام في فرنسا، ولكن هل يعني ذلك أننا مقبلون على صراعات دينية وحضارية وثقافية قادمة؟ كانت تلك الحادثة بدون شك جريمة وحشية ونكراء هدفها جعل هذا العالم عرضة لصراعات عرقية ودينية وثقافية.

ومما يؤسف له انه في الوقت الذي تتجه فيه أصوات الاعتدال في العالم إلى التقارب والتفاهم، تخرج علينا من جهة عناصر متطرفة ترفض مبدأ التعايش مكرسة حقدها على الإنسانية بارتكاب جرائم بشعة، ومن جهة أخرى تقوم وسائل إعلامية مريضة بإعادة نشر رسومات مسيئة للنبي صلى الله عليه وسلم لتكشف عن جهلها وصفاقتها وحماقتها وبامتياز.

هذا المناخ يُعيد من جديد نظرية صراع الحضارات للباحث الاميركي صموئيل هنتنغتون لتطفو على السطح، والتي سبق ان طرحها منذ أكثر من عقدين. وجاء فيها ان النزاعات الدولية سواء منها الاقليمية او العالمية ستكون في المستقبل على شكل صدام حضارات، وليس على صراع أيديولوجي، لان الاختلاف بين الحضارات حقيقة الوقوع. ويرى أن البؤرة المركزية للصراع العالمي ستكون بين الغرب والحضارتين الاسلامية والكونفوشيوسية (الصينية).

غير أن المتابع للأحداث يعلم بأن أيديولوجيا القاعدة لم تكتف باختراق نسيج المجتمعات الإسلامية من خلال توظيف النص الديني، بل تجاوزت كل ذلك لتستهدف الشباب المسلم في دول الغرب الذين يحملون جنسياتها وتجنيدهم للقيام بعمليات إرهابية في الغرب من اجل تكريس العداء والقطيعة معها.

وها هو تنظيم القاعدة في اليمن يتبنى الهجوم على صحيفة شارلي ابيدو الفرنسية بأمر من الظواهري. ويبدو ان استهداف القاعدة لفرنسا محاولة لتركيعها ورفض لسياساتها ضد الإرهاب في مالي والعراق ناهيك عن مشاركتها التحالف الدولي. واللافت ان اليمين المتطرف استغل الحادثة مكررا ادعاءاته ان الجالية الإسلامية ليست قادرة على الاندماج مع ان المتهمين هم مواطنون فرنسيون، ولم يخفف من تداعيات الهجمة على المسلمين سوى تصريحات المسؤولين الفرنسيين العقلانية من مغبة الخلط بين الإسلام والتطرف الديني الذي تمثله القاعدة، وقد أشار الرئيس الفرنسي الى ان المسلمين اول ضحايا الإرهاب.

بيد أنه ومن باب الإنصاف القول بأن ثمة عوامل يتعرض لها الشباب المسلم أو الأقليات المسلمة في بعض دول الغرب كالتهميش والتضييق والاشتباه الدائم، وانتهاك حقوقهم، ما يحفزهم لقبول طروحات الحركات الراديكالية، وبالتالي الانخراط في الخلايا الإرهابية. طبعا هذا لا يعني أننا نبرر القتل، فالعنف مرفوض تحت أي ذريعة، ومع ذلك تبقى مسؤولية تلك الدول في احتوائهم وعدم تهميشهم ومعاملتهم كمواطنين لهم ذات الحقوق وعليهم نفس الواجبات.

نعلم ان حرية الرأي من صميم الحقوق والحريات التي تنادي بها الشعوب وتشدد عليها المنظمات الحقوقية بدليل تضمينها إياها في الاتفاقات والمواثيق الدولية. ومع ذلك فحرية التعبير في الغرب لا تعني دعوة للكراهية او تعطيك الحق في الإساءة لأي دين او رموز كما ذكر بابا الفاتيكان، وبالتالي ليس من المقبول عقلا ولا منطقاً أن تُقدم وسيلة إعلامية على إيقاع حكومات وشعوب في فخ مواجهات وصراعات، بحجة أن الدستور يكفل لها حرية التعبير بغض النظر عن تداعياتها السلبية. هذه النقطة ربما كانت ولازالت الاكثر جدلا في الغرب وتفتح تساؤلات مشروعة. وإن كان الجميع متفقا على ضرورة حرية التعبير ولكن الاختلاف الذي ينشأ يكمن في أي مدى يمكن ان نصل إليه؟

وحول ما إذا كانت حرية الرأي يجب أن تكون مطلقة أم هي نسبية، وهل يفترض تقييدها في مسائل معينة؟ ونتساءل هنا ماذا ستكون عليه الصورة فيما لو، على سبيل المثال، قام أحد المسلمين بإنكاره للهولوكوست، أو قام آخر بإحراق الإنجيل أو التوراة رغم رفضنا القاطع لذلك، وما هي ردود الفعل الغربية حيالها: هل ستعتبرها أنها تندرج ضمن نطاق حرية التعبير، أم أنها تصنفها جريمة يُعاقب عليها؟!

الحقيقة أن جميع المواثيق الدولية لحقوق الإنسان تؤكد على احترام حق حرية التعبير، ومع ذلك قامت بتقنين هذا الحق وتحديدا في الفقرة الثالثة من الفصل التاسع عشر من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية بإشارتها الى "أن حرية التعبير يجب ألا تمس حقوق الآخرين والنظام العام والنظام الداخلي للدول،" بالإضافة الى المادة 20 من ذات العهد، التي تنص على تجريم "أية دعوة إلى الكراهية القومية أو العنصرية أو الدينية تشكل تحريضا على التمييز أو العداوة أو العنف". أضف الى ذلك قرار مجلس حقوق الإنسان للأمم المتحدة بمكافحة التعصب الديني.

ومع ذلك تكشف لنا جريمة شارلي بحقٍ عن صدام حضاري مقلق لا يلبث أن يتفاقم مع القادم من الأيام، ورغم أن المتطرفين في العالمين الإسلامي والغربي قلة، إلا أن هناك ضرورة في التركيز على القواسم المشتركة التي تجمعنا مع الغرب عوضاً عن الاختلافات التي تفرقنا. مع أهمية ان يسبق ذلك مراجعة خطابنا الديني والثقافي بكل شفافية ليصاحبا المتغيرات الداخلية والخارجية.

صفوة القول: الصراع قد يذهب للاسوأ لا محالة بدليل ارهاصاته الراهنة ولن يخفت توهجه الا بمواجهة التطرف من قبل الجميع وذلك بترسيخ التسامح فضلا عن وضع قانون دولي يجرم التعرض للأديان السماوية والرموز والمقدسات، هذا ان أردنا فعلا التعايش!
&