علا عباس

السوريون المهاجرون يبدؤون اليوم حياتهم الجديدة، وشيئا فشيئا سينسى أبناؤهم ذكريات الوطن القديم، ثم الحنين إليه، ثم لغته، وسيتحولون ككل المهاجرين في العالم إلى أجزاء من بلدانهم الجديدة

&


وصلت الهجرة السورية لذروتها، وامتلأت مشارق الأرض ومغاربها بسوريين فاريّن من الحرب والدمار، من الفقر والجوع، من سكاكين داعش ومن براميل النظام، من اقتصاد منهار محطم، ومن خوف دائم ومتعدد الأسباب.


البحر يحمل المئات والآلاف كل يوم، والبر ضاق عن شعب ضاقت عليه الدنيا، وهذه -ربما- آخر حلقة في المأساة السورية، فأن تخلو البلاد من أهلها هو آخر السوء الذي يمكن أن يحصل لها.
لقد فعلت هذه الحرب الكثير، لكن تتويج تعقيدها هو موجة الهجرة الكثيفة الحالية. ففي التاريخ السوري القديم والجديد، كل أزمة عصفت بالبلاد انتهت إلى موجة هجرة كبيرة، وهذه لن تكون إلا واحدة أخرى، فالحدث اعتيادي ومألوف ومتكرر إذًا.


في نهايات القرن التاسع عشر، وكانت سورية يومها تحت الاحتلال العثماني، عانى السوريون من الجوع والفقر وضاقت بهم بلادهم، وعانوا الاضطهاد والظلم من العثمانيين، فكان رد فعلهم التلقائي في ذلك الوقت المبكر هو الهجرة، وركبوا السفن البدائية في رحلة طويلة شاقة قادت كثيرين منهم إلى أميركا الجنوبية، (يومها كانت سورية ولبنان بلداً واحداً)، ذهبوا إلى بلدان جديدة كلياً باحثين عن فرصة حياة، وقد نجح كثيرون منهم في تأسيس حياة وإنجاب أبناء، يقدر عددهم اليوم (من الجيلين الثاني والثالث) بأكبر من عدد السوريين المقيمين في سورية.
وفي أواسط القرن العشرين ومع قيام الوحدة مع مصر عبدالناصر، وصدور قرارات التأميم، حدثت هجرة أخرى، هي أصغر بالعدد طبعاً،

لكنها أكثر أهمية من حيث النوعية والفاعلية والدور والتأثير، فخرج يومها أصحاب المشاريع والصناعيون والتجّار الكبار، ذهبوا إلى بلدان متنوعة ليؤسسوا أعمالاً ناجحة ومشاريع كبرت مع الوقت، لتصبح بديلاً لمشاريعهم في وطنهم، وما زالت شواهد هذه الهجرة قائمة في أوروبا وأميركا الشمالية وأفريقيا، وبعض الدول العربية.


قبل ذلك بكثير، كانت الأرض السورية منبع هجرات على مر التاريخ، ولا أدل على ذلك من اعتبار التونسيين لأنفسهم بأنهم سوريون، لأنهم يقولون إن مدنهم الأولى بناها سوريون فينيقيون وصلوها عبر البحر، ويتردد حتى الآن أن قرطاجة مدينة فينيقية على الشاطئ الأفريقي، بالإضافة إلى شواهدهم في كل مكان.


هذه الحرب لن تكون استثناء في هذا التاريخ، وقد حملت فيما حملت ملايين السوريين إلى أصقاع الأرض، سينجح كثير منهم في بناء حياة جديدة وتحقيق نجاحات حيث حلّوا، إن لم يكن بشكل مباشر، فعبر أبنائهم.
قد يعترض كثيرون على هذا الكلام، ويعتبرون أن هجرة السوريين مؤقتة، وأنها ستنتهي برحيل نظام بشار الأسد، وأن السوريين الذين هاجروا إلى أوروبا أو دول الجوار سيعودون خلال أيام من رحيل النظام. أحترم هذا الشعور الوطني، وأتفهم دوافعه وأسبابه، ولكن تجارب التاريخ كلها تقول عكسه، ففي كل الهجرات التي حدثت بفعل الحروب أو الكوارث، لم يعد أكثر من ثلث المهاجرين إلى بلدانهم الأصلية، وتجارب السوريين تحديدا مع الهجرة في التاريخين القريب والبعيد تثبت ذلك أيضاً.


وفي مثال قريب من الحالة السورية، تسببت الحرب الأهلية اللبنانية بهجرة مئات آلاف اللبنانيين، توزعوا على أوروبا وأميركا الشمالية وبعض الدول الأفريقية، أسس بعضهم مشاريع، ووجد بعضهم عملاً، وأنجب معظمهم أبناء في بلدانهم الجديدة، وحصلوا على جنسياتها، وانتهت الحرب، فما الذي حصل؟ عاد البعض منهم مدفوعين بالحنين والذكريات وأغاني الرحابنة، اشتروا بيتاً في الجبل، سكنوه لشهر أو شهرين، ثم أغلقوا الباب وعادوا إلى حياتهم البديلة، واظبوا على زيارة هذا البيت لشهر في الصيف كل عام، ثم كل عامين، ثم كلما أتيحت الفرصة، وهي قلما تتاح.


السوريون اليوم يبدؤون حياتهم الجديدة، وهم مهاجرون بلا أنصار، وليس لهم إلا أنفسهم ومهارتهم، وقريباً سيبدؤون بتأسيس مشاريعهم، والموجة الأولى منهم بدأت بالحصول على جنسيات الدول الجديدة، وشيئاً فشيئاً سينسى أبناؤهم ذكريات الوطن القديم، ثم الحنين إليه، ثم لغته. وسيتحولون ككل المهاجرين في العالم إلى أجزاء من بلدانهم الجديدة.


بقي أن أقول: إنني أتوقع أن هذه الموجة قد اقتربت من نهاياتها، فمن يريد الهجرة فقد فعل، ومن لم يفعلها حتى الآن فلن يفعلها أبداً.
&