أحمد عبد المعطي حجازي
&
هذه القضايا الخطيرة التى تتفجر فى هذه الأيام بين أيدينا وتحت أرجلنا كما تتفجر القنابل العنقودية، لماذا نواصل خداعنا لأنفسنا فنواجهها كأنها مفاجآت متفرقة لاشيء يجمع بينها، وكأننا نواجهها لأول مرة؟!
الدولة المصرية وصفتها، وهل هى دولة مدنية كما ينص على ذلك الدستور نصا ضمنيا فى كثير من مواده؟ أم هى دولة دينية كما تنص على ذلك مواد أخري؟ أم هى دولة بين بين، مدنية تتمسح بالدين ودينية تتمسح بالمدنية؟!
النصوص الدستورية والوقائع السياسية تشير الى خلط فاحش بين الدين والدولة. الدولة المصرية يفترض أنها دولة المصريين جميعا باعتبارهم مواطنين أحرارا متساوين بصرف النظر عن انتماءاتهم الدينية أو العرقية أو الطبقية. لكننا نرى أن الدستور يقول إن الإسلام هو دين الدولة، وأن الشريعة الإسلامية هى المصدر الرئيسى للتشريع. ومع أن الدستور يمنع قيام الأحزاب الدينية فالأحزاب الدينية تتحدى الدستور وتجد فى مؤسسات الدولة وفى النظام القائم من يساعدونها ويفرضونها علينا.

والخلط بين الدين والدولة ليس هو الخلط الوحيد فى الدستور. الدستور يخلط أيضا بين العروبة باعتبارها ثقافة وهذه حقيقة لا جدال فيها، والعروبة باعتبارها أمة وهذه مجرد شعار أثبتت التجارب عدم مصداقيته وعدم حاجتنا إليه. لأن المصريين غير العراقيين. والشوام غير المغاربة. والدول العربية تستطيع أن تتضامن دون أن تتخلى كل منها عن شخصيتها الوطنية، وتستطيع أن تتحد اذا ارادت كما اتحدت الدول الأوروبية، وهى قوميات ولغات وثقافات مختلفة.

وفى اعتقادى أن الخلط بين العروبة الثقافية والعروبة السياسية لم يكن مجرد خطأ أو اندفاع عاطفي، وإنما كان تزييفا متعمدا قصد به الربط بين الشعار وبين الحكام الذين رفعوه تبريرا لانفرادهم بالسلطة وبقائهم فيها ليحققوا الوحدة العربية التى عينوا أنفسهم مسئولين عنها، فلم يحققوها بالطبع لا كليا ولا جزئيا، وإنما حققوا عكسها، وهو زعزعة أركان الوحدة الوطنية التى كانت موجودة من قبل، كما فعل صدام حسين فى العراق، وحافظ الأسد وابنه وخليفته فى سوريا، ومعمر القذافى خليفة عبد الناصر فى ليبيا، والبشير والترابى فى السودان.

ونحن المصريين كنا قبل انقلاب يوليو عام 1952 مصريين ننطق بالعربية وندين بالاسلام والمسيحية ونؤدى واجبنا نحو اشقائنا فى مختلف الأقطار العربية. لكننا بعد يوليو أصبحنا جزءا مما يسميه الدستور الأمة العربية، ثم أصبحنا جزءا مما يسمى الأمة الإسلامية فاختلط علينا الأمر لأننا نعلم علم اليقين ان العرب ليسوا أمة بالمعنى الصحيح لهذه الكلمة ولكنهم شعوب وجماعات متعددة ونعلم علم اليقين ان المسلمين الذين تمتد بلادهم من البلقان فى أوروبا الى حدود الصين ليسوا أمة واحدة وإنما هم أمم مختلفة لكل منها أرضها وتاريخها وثقافتها، فإذا كان الدستور قد تجاهل هذه الحقائق الثابتة إرضاء لبعض القوى والتيارات وجعلنا جزءا من هذه الأمة أو تلك فقد تنكر بهذا للأمة المصرية التى كانت أمة مكتملة الشروط قبل العروبة وقبل الإسلام.

وأنا أعرف أن الانتماءات تتعدد فنحن بشر، وأفارقة، وعرب باللسان، ومسلمون ومسيحيون بالعقيدة. وهذه كلها مقومات لشخصيتنا القومية التى لا يحق لأحد أن يختزلها فى الدين أو فى اللغة. لكن الحكام الطغاة يزيفون الحقائق ويحولون الأوهام إلى شعارات ينتسبون إليها ويحصلون على ريعها وهذا ما نبهنا له الشاعر الحكيم أبو العلاء المعرى منذ ألف عام فى قوله:

إنما هذه المذاهب أسباب لجلب الدنيا إلى الرؤساء!

والنتائج المترتبة على الخلط بين الدين والدولة خطيرة متعددة تواجهنا فى كل مجال وفى كل نشاط.

حين نطالب بالديمقراطية وحقوق الإنسان بناء على أن الأمة المصرية هى صاحبة الحق وهى مصدر السلطة تعترض الأحزاب الدينية التى أصبح فى قدرتها بالأقوال التى تخدع بها المتدينين البسطاء، وبالأموال التى تتدفق عليها من بعض دول النفط أن يكون لها صوت ترفعه ضد الديمقراطية حتى فى عرين الديمقراطية. لأن الديمقراطية هى حكم الشعب، وهذا يتعارض مع فهم هذه الأحزاب المعوج للنصوص الدينية التى تقول إن الحكم لله دون أن تميز بين القوانين الثابتة والنظم المتغيرة، بين قوانين الطبيعة وقوانين المجتمع الذى يملك كل الوسائل والقدرات والطاقات التى تمكنه من أن يستفيد من تراثه ومن تجاربه وان يميز بين الخير والشر وبين النافع والضار أفضل كثيرا مما كان أئمة الماضى وفقهاؤه يميزون، لأن خبرات الحاضر تعددت واتسعت وتراكمت وأصبحت علما نافعا وواقعا مشهودا. غير أن الأحزاب الدينية لا ترى هذه الحقائق ولا تعترف بها. ولهذا لا تميز بين قاعة البرلمان وصحن الجامع، وإذا كان لابد من رفع الأذان فى الجامع فلابد من رفعه فى البرلمان لأن اقامة الصلاة فى البرلمان تمنع الناخبين من محاسبة النواب الذين ذهبوا إلى البرلمان ليؤدوا حقوق الله فلم يعد من حق أحد أن يسألهم عن حقوق الشعب!

هذا عن موقف الاحزاب الدينية من الديمقراطية، أما موقفها من العلمانية فألعن وأضل.

إنها قد تسكت على الديمقراطية وتساير الداعين لها بالخلط بينها وبين الشورى التى تجعل المشاركة محصورة فى جماعة محدودة يستمع لها الحاكم وله أن يأخذ برأيها أو يضرب به عرض الحائط.. أما العلمانية فهى عندهم الكفر البواح، البواح هو الصريح المكشوف لأن العلمانية تميز بين البرلمان والجامع وترفع الشعار النبيل الذى رفعه المصريون يوم اكتشفوا أنهم أمة واحدة عريقة مستقلة وليسوا طوائف دينية متعددة فهتفوا جميعا بصوت واحد من على منابر الجوامع والكنائس: الدين لله، والوطن للجميع.

الوطن للجميع، صيغة أخرى تعبر عن المبدأ القائل «الأمة مصدر السلطات»، وهذه هى الديمقراطية. ولكى يكون الوطن للجميع فلابد أن يكون الدين لله أى شأنا خاصا بكل فرد على حدة، فلكل فرد الحق فى أن يختار عقيدته وأن يمارس شعائره الدينية. ولكى يكون هذا الحق واقعا معمولا به وليس حبرا على ورق فلابد من الفصل بين الدين الذى هو لله والدولة أو الوطن الذى هو للجميع.

العلمانية هى الشرط الأول الذى تتحقق به الديمقراطية. فالمسيحيون والمصريون واليهود المصريون والبهائيون المصريون لا يستطيعون أن يكونوا مصريين أى أن يمارسوا حقوقهم الكاملة، إلا إذا كانوا مواطنين متساوين مع بقية المواطنين.. وهم لا يستطيعون أن يكونوا متساوين إلا بالعلمانية، أى بالفصل بين الدين والدولة، وهو ما لا يتعارض مع الاسلام الذى لم يفرض على المسلم سلطة دينية او مرجعا كهنوتيا، وانما جعل مرجعه قلبه يستفتيه وإن أفتاه المفتى وأفتاه لأنه كما قال له رسوله أعلم بشئون دنياه. وليس باستطاعتنا ان نحصى الكوارث الناتجة عن الخلط بين الدين والدولة، لأن هذا الخلط لا يترك مجالا دون أن يفسده. المرأة فى نظر هؤلاء الخالطين عورة، كلها عورة، فعليها أن تختفى فى الثياب، ولها بعد ذلك أن تطلق العنان لشحمها ولحمها، وان تكلمنا من وراء حجاب، وتعالجنا من وراء نقاب، وتنوب عنا فى البرلمان دون أن نسمع صوتها أو نرى وجهها.

هذا الموقف البدوى المقزز من المرأة هو فى جوهره موقف من الانسان ومن حقه فى التفكير والتعبير والاجتهاد والاختيار.. باختصار، الخلط بين الدين والدولة هو اصل هذه المصائب كلها. انه طغيان واستبداد ونفى للعقل ونفى للحرية!