عادل درويش

لا نقصد يمين الوسط كالمحافظين في بريطانيا فهم القاعدة الاجتماعية الاقتصادية للديمقراطية الملتزمة باقتصادات السوق الحرة وتميل للمحافظة على تماسك النسيج الاجتماعي من الأسرة والتقاليد ونظام التعليم الكلاسيكي. المقصود اليمين المتشدد المبالغ في قوميته والمتوجس من المهاجرين والثقافات الوافدة.


في فرنسا تدفقت الأصوات الانتخابية على الجبهة القومية (الجبهة الوطنية عند بعض العرب) وفي معظم بلدان أوروبا تتنامى تيارات يمينية بمزاج معاد للأجانب، خاصة المسلمين.


في أميركا دونالد ترامب أصبح أكثر مرشحي الحزب الجمهوري تقدما في الاستطلاعات، وحتى وقت قريب لم تأخذه الصحافة على محمل الجد. وبعكس اليمين الأوروبي الذي يتمتع بوعي سياسي ويديره نخبة من ساسة متمرسين مثقفين فإن هذا اليمين الأميركي يعتبر أميا من ناحية التاريخ والجغرافيا والسياسة.


وكما ذكرنا في هذه الصفحة من قبل، هناك أكثر من طيف على اليمين. يمين الوسط الليبرتاري libertarian (وننبه ليس الليبرالي بل الليبرتاري أي الذي يؤكد على بل ويقدس الفردية وحرية الفرد واستقلاليته ويريد أن يقلص دور الدولة وتدخلها في حياة المواطنين). وهو يمين مستنير هو الأقرب للأساس الديمقراطي باعتبار أن الإنسان الفرد هو أهم وأغلى استثمار في المجتمع. وهناك اليمين المتشدد الآيديولوجي. والآيديولوجيا من طبعها طمس ملامح الفرد وتذويبه في تيار يضع الوطن أو الأمة أو الانتماء الحزبي قبل الأفراد وحاجاتهم، ويتشدد هذا اليمين في تطرفه حتى يغلق الدائرة فيلتقي مع اليسار الآيديولوجي المتشدد. وإذا كانت الأهداف المعلنة والملامح الآيديولوجية لليمين واليسار تبدو في ظاهرها معاكسة فإن الممارسات والأساليب وتذويب الفرد وتجاهل مصالحه لهدف الوطن تجعل الاثنين متطابقين في تأثيرهما على الأفراد والمجتمع.
اليمين المتشدد، مثل اليسار المتطرف، ليس اختراعا جديدا بل موجود منذ بداية تبلور الفكر السياسي في أحزاب وتيارات تعكس المصالح الاقتصادية لطبقات اجتماعية اكتسبت قوتها أو ضعفها من التطور الاقتصادي عقب الثورة الصناعية.


اليمين في الأنظمة الديمقراطية التي يضبطها قانون وقضاء مستقل وصحافة حرة وتتشكل حكوماتها عبر صناديق الاقتراع، يكون صعوده وهبوطه حسب تقبل الجماهير لرسالته أو رفضها له.
الملاحظ أن القراء العرب كثيرا ما يوجهون اللوم للصحافة الغربية (ويقصدون الصحافة الحرة) في تضخيم رسالة يتقبلها الرأي العام.


ومن الخطأ المبالغة في دور الصحافة في تشكيل الرأي العام، فاليمين تزداد شعبيته في بلدان صحافتها العامة يسارية التوجه. والصحافة قد تضخم الأحداث وردود الفعل لها، لكنها لا تخترع الأحداث بل تنشر تفاصيلها بدقة أو غير دقة بعد وقوعها، وتتفاعل مع رأي عام تشكل بالفعل لكن لا تشكله؛ فغالبية قراء صحيفة أو مشاهدي شبكة تلفزيون لهم موقف تحدد مقدما ومتابعة الأخبار تؤكد قناعتهم لا تغيرها.


عوامل متعددة تشكل الرأي العام أو تدفع لتغيره. فالمناخ الاقتصادي والاجتماعي والتغيرات الديموغرافية المختلفة - خاصة عقب موجات الهجرة - وتراكم سلبيات المؤسسة السياسية التقليدية (وهي دائما مؤسسة الوسط السياسي لأن السلطة يتم تناوبها بين يسار الوسط من أحزاب اشتراكية أو اشتراكية اجتماعية إلى يمين الوسط المحافظ الليبرالي بنسب نادرا ما تزيد على 10 في المائة) تنتهي بمحصلة عوامل تصب في اتجاه طفرات استجابة الرأي العام لخطاب اليمين الزينوفوبي القومي والذي أحيانا ما تشوبه العنصرية. فخط التيارات القومية في مجملها تشوبه العنصرية (في مراحل الحروب والأخطار التي تهدد أي أمة، يصعب بيع فكرة الحرب للناخب أو المواطن بلا ربط ملامح الشخصية القومية وشكل المجتمع بعلامات وصفات تضعه في ذهن المواطن كأرقى من مجتمع الخصم وتضع العدو في صورة متدنية ثقافيا واجتماعيا وحضاريا لترويج فكرة ضرورة خوض الحرب دفاعا عن مكتسبات وملامح وطنية سيخسرها المجتمع إذا فاز الطرف الآخر في هذا النزاع).


من المسؤول إذن عن تنامي شعبية اليمين وصعوده في الغرب؟


هناك ملامح مشتركة لليمين المتشدد الصاعد شعبيا في كل البلدان الغربية وهناك أيضا صورة للخصم أو الآخر الذي يلوح به هذا اليمين كخطر يجب حماية المجتمع منه. فإذا كان اليمين الأوروبي يحذر الناخب من أضرار موجات الهجرة، فإن هناك عوامل أخرى تتداخل معها. مثلا العامل الاقتصادي لأن نسبة البطالة مرتفعة في أوروبا وهناك نقص للخدمات بسبب تقليل الإنفاق. وبديهي أن المهاجر يزاحم المواطن في الخدمات ويقبل العمل بأجر منخفض فيزيد من معدلات البطالة. وتدفق على أوروبا مليون مهاجر وبدأت دول وسط وشرق أوروبا في إغلاق حدودها وانهار مبدأ الوحدة الأوروبية، فتلاقت عوامل الهجرة والاقتصاد وفقدان الثقة بالفيدرالية الأوروبية التي تناهضها تيارات اليمين. وهو عامل غائب عن أميركا حيث صعود اليمين المتشدد فيها أكثر خطورة. والتشابه بين أوروبا وأميركا هو التوجس من المهاجرين من ثقافات غير ديمقراطية خاصة من المسلمين فهي ظاهرة يثيرها اليمين في الغرب عامة.


وقبل اتهام الغرب بالعنصرية والإسلاموفوبيا ما هي مسؤولية الإسلام السياسي بعد أحداث الإرهاب الأخيرة؟ ومسؤولية التيارات اليسارية والليبرالية الغربية التي لم تنصرف عن القضايا الأساسية في حياة المواطنين فحسب بل ساهمت في تغريب الرأي العام بدعم تيارات التطرف في الإسلام السياسي كالإخوان وأمثالها.


التيارات والأحزاب اليسارية التي لعبت دورا رياديا تاريخيا في تطوير الحركات النقابية وتحسين أحوال العمال وارتفعت شعبيتها أثناء الحرب العالمية الثانية بتحالف الاتحاد السوفياتي الاشتراكي مع العالم الرأسمالي لدحر النازية والفاشية تغيرت ثقافيا.


لم تعد هذه التيارات «التقدمية» سابقا الممثل السياسي للجماهير، والتي بطبيعتها محافظة أولوياتها الأسرة والمسكن وتعليم الأولاد والصحة والأمن المحلي. في بريطانيا وأوروبا دفعت الحكومات الليبرالية والتيارات اليسارية بأجندة ضيقة كزواج المثليين والتضييق على حرية الرأي باسم حماية الأقليات وزيادة الضرائب باسم حماية البيئة، بل تغيرت أيضا التركيبة الديموغرافية بدخول ثقافات غريبة يدعمها اليسار الليبرالي على حساب الثقافة الأصلية. واليمين يغني لحن الجماهير في انتقاد هذه السياسات ويقدم بدائل لم تجرب بعد، لكنها تلوح بأمل التخلص من أعراض المرض الظاهرة.


في أميركا ضاقت الغالبية من الطبقات الوسطى ذرعا بتجاهل قضاياها وانصراف المؤسسة السياسية أثناء فترتي ولاية باراك أوباما عن القيم الأساسية التي بني عليها الحلم الأميركي اجتماعيا واقتصاديا في القرنين الماضيين. فالنسيج الاجتماعي الأميركي ليس نيويورك أو لوس أنجليس أو سينما هوليوود، وإنما ما يعرف بالغرب الوسطي؛ حيث المزارع الشاسعة والمزارعون الذين يعملون ساعات طويلة والرعاة وعمال المناجم وهم نسيج المجتمع المحافظ المتدين الذي يغرق في دوامة تديرها تيارات لم يعتدها، ودونالد ترامب بغوغائيته يلوح بطوق النجاة فوق الدوامة.
&