&عزت صافي
مع بداية كل مرحلة لانتخاب رئيس جديد للجمهورية اللبنانية تأخذ العملية طابع «المعركة». لكن النهاية تأتي في معظم الحالات بنتيجة تسوية، ويقطف الثمرة الرئيس الذي يكون قد استقطب أصوات الغالبية من النواب في الأيام، أو في الساعات القليلة التي تسبق عملية الانتخاب. وهكذا يبدأ كل رئيس لبناني جديد عهده مدعوماً بقوى سياسية متعددة الانتماء والاتجاه، إلا أنها ذات رؤية مشتركة لمصالح مختلفة وأهداف متباينة. لكن تاريخ لبنان القديم والحديث حافل بنهايات رئاسية خلفت وراءها نكبات ونزاعات تحولت دموية ومدمرة.
في المعركة الرئاسية الدائرة حالياً تسود رؤية إيجابية تطغى مثل السحر على القيادات السياسية والكتل الناخبة فتجعلها متقاربة ومهيأة للتوافق على مرشح جديد هو أيضاً يثير علامات الإعجاب بنبرة خطابه المنفتح على الوفاق الشامل، مع الرجاء المشحون بالعزم على إعادة تكوين جمهورية حديثة لشعب يستحقها بعدما أنهكته حروب داخلية وإقليمية، وقد تاق إلى العيش في كنف دولة تكفل له الطمأنينة والاستقرار، والحرية والقانون، وفرص العمل والطموح. كل ذلك ليس أكثر من شرط أساس لإعادة لبنان إلى دور كان فيه قطباً إقليمياً مميزاً بمجتمع مدني منفتح ومؤهل للانخراط في عالم الديموقراطية والتجدد، على أن يكون متّحداً وقوياً وقادراً على مواجهة عدو لا ينسى أنه أمامه بكامل أسلحته وخرائطه وخطط غدره.
شيء من هذا الإنشاء بات فرضاً واجباً على المرشح الصالح لرئاسة الجمهورية اللبنانية، وهو أيضاً فرض واجب على الكتل النيابية التي تتواصل اجتماعاتها في هذه المرحلة استعداداً لتحصين موقعها وتأمين حصتها من خلال دورها في الحكم أو في المعارضة، ولا يغيب عن بال النواب المتمرسين بمسؤولية الوكالة عن الشعب كم هو عالٍ ومحترم دور النائب المعارض في خدمة الشعب والوطن.
هؤلاء اللبنانيون يصنعون المعجزات إذا ما قرروا التوجُّه نحو التوافق، كما إنهم يصنعون الكوارث إذا قرروا التحوُّل نحو الصدام. كلام من هذا النوع يمكن أن يقوله ويردّده في لحظة ما أي من الأقطاب اللبنانيين المسلمين والمسيحيين فيقلب الطاولة على ركام النزاع والقلق واليأس، ثم يتّجه نحو الفريق الآخر باسطاً اليد للمصارحة والمصالحة فتسقط الحواجز، وتشرّع الأبواب للتلاقي على شرط الخروج بكلمة سواء، فلا يلبث الدخان الأبيض أن يتصاعد معلناً ولادة رئيس جديد للجمهورية اللبنانية، فيتوجه المدعوون جميعاً إلى المسرح الذي تظلّله قبّة عالية. وهناك يقفون ويطوبون الرئيس.
هذا مشهد منتظر في الأيام اللبنانية المقبلة. وقد يكون قريباً، وقد يتأخر، إنما هو آتٍ آتٍ، لا محالة. هذا ما يقال مع التأكيد.
لكن هذا المشهد المركّب بإتقان في الصالونات السياسية يستنفر شعب الصبر والانتظار منذ سنة ونصف السنة يحق له أن لا يصدّق. وإذا صدّق يحق له أن يسأل: لماذا، ومن المسؤول عن العرقلة؟.. ثم من يدفع الخسائر التي منيت بها خزينة الدولة والشعب؟ وهل يرد النواب إلى الخزينة ملايين الدولارات التي قبضوها مقابل أدنى خدمة أو منفعة؟.. بل ما هو الجزاء الذي يستحقونه تعويضاً للبنانيين عما أصاب جمهوريتهم من ركود وهبوط وانحدار، وما أصاب أجيالهم من بؤس ويأس وكساد وإفلاس، وهجرة وعذاب فراق؟
كل ذلك سوف يذهب هباء كما ذهب ما قبله من أعمار اللبنانيين. ومع كل ذلك لا يزال اللبنانيون في قبضة الأزمة، وهم مستمرون في حيرتهم وتساؤلاتهم: ماذا ننتظر بعد، ولماذا ننتظر وقد ذهبت هباء الهبة الشبابية التي ملأت ساحات بيروت وشوارعها حتى ضاقت بها، وكانت النتيجة صفراً على صفر.
وإذا كان لبنان قد نجا من «تسونامي الربيع العربي» فإن ذلك الربيع كان قد تسلّل إليه من باب النفايات، ثم ما لبث أن شرّع الأبواب على أكوام الفساد. وإذ تعاملت السلطة اللبنانية معه بحكمة ومرونة، واستوعبت تحديات بعض الفوضويين، فإنها لم تستطع إلا أن تخلي الشوارع والساحات لجماهير الشباب من الطلاب والموظفين والعمال وأرباب العائلات والهيئات الثقافية والاجتماعية للتعبير عن حقها الديموقراطي المدني السلمي في وقفة ضد الحكم، وضد أرباب الفساد.
ولقد عبّرت الجماهير عن غضبها بأعلى درجة من الشجاعة في توصيف الحكم والقوى الحاضنة له بأبلغ العبارات، وبالشعارات المكتوبة على «اليافطات» باللغات العربية والأجنبية. لكن الحكم كان يقيم في الفراغ، ولا يزال. ثم كان له من الذكاء والصبر والمرونة ما مكّنه من إهماد الهبة الجماهيرية، فعادت الرتابة والبلادة والآمال الواهمة إلى الشوارع والساحات العامة شبه الخاوية في معظم الحالات، وعاد التساؤل: ماذا بعد؟ ... وعادت التكهنات والنظريات بعيداً من مواقع المسؤولية.
ثمّة براهين ساطعة على ما أصاب لبنان من التدخلات الخارجية منذ مطلع عهد الاستقلال عبر أكثر من سبعة عقود، ولا تزال مستحكمة بقراره الوطني، خصوصاً منذ بداية زمن الوصاية السورية قبل نحو أربعة عقود، وما جرّ ذلك الزمن على لبنان من ويلات وكوارث ذهبت بكوكبة من ألمع رجاله في القيادات السياسية والشعبية، كما في الحضور العالي المستوى على الصعيدين العربي والدولي، وقد مضت تلك القامات إلى التاريخ الذي بات مثقلاً بلوائح الشهداء والشهادات.
مقابل ذلك كانت تنهار دول وأنظمة وتطفو شعوب على سطوح المحيطات فيما السماء تمطر حمماً على مدن عريقة فتدمّرها، وتبقى قصور حكم الاستبداد مشعّة بالأنوار.
لم يسبق للبنان من قبل أن اقترب إلى الحدّ الذي بلغه أخيراً عند حافة الهاوية.
لا حرب أهلية، والحمد لله، لكن هناك حرباً على الدولة، على الجمهورية، على الاقتصاد، على السياحة، على التجارة، وعلى ما بقي صامداً من مظاهر الوحدة الوطنية.
وفيما يتقلّص الظلّ السوري على الساحة السياسية اللبنانية تعود بيروت «مزاراً أخوياً» إلزامياً لكبار المسؤولين في الجمهورية الإسلامية الإيرانية الذين ينزلون في دمشق لدواعٍ استراتيجية، فيغتنمون الفرصة لزيارة كبار المسؤولين اللبنانيين والتأكيد لهم على أن الجمهورية اللبنانية هي في موضع الأمانة الغالية. وأخيراً جاء مستشار مرشد الجمهورية الإسلامية السيد علي الخامنئي، علي أكبر ولايتي، إلى بيروت ليتمنى «أن يجد انتخاب رئيس جمهورية للبنان طريقه إلى الحل في القريب العاجل، وأن يكون الرئيس الجديد مقبولاً من غالبية الشعب اللبناني؛ وإذ أكد «أن الجمهورية الإسلامية لا تدّخر جهداً في تقديم أي مساعدة ممكنة للبنان حكومة وشعباً، شدّد على أن «دور البلدين (الجمهورية الإسلامية الإيرانية والجمهورية اللبنانية) واضح ومهم، مؤكداً أن التعاون قائم بين البلدين على المسرح الدولي والإقليمي».
في هذا المناخ يتفق خبراء في «علوم السياسة اللبنانية» على أن اللبنانيين لا يحتاجون إلى مجلس نيابي فضفاض، لأن الوقائع تثبت أن زيادة عدد النواب أدى إلى قلّة الإنتاج وزيادة النفقات، فضلاً عن تعدّد الكتل والمحاور، وتضارب الاتجاهات والانتماءات، ما يسمح للدول القريبة والبعيدة بالتدخُّل في الشؤون اللبنانية، فيصحّ القول عن لبنان أنه جمهورية صغيرة بدول كثيرة تتزاحم على أدوار، وعلى مصالح ومواقع قوى ونفوذ.
كما يصح القول إن معظم النواب اللبنانيين يتصرفون وكأن لبنان ولد على أيديهم، ولن يبقى من دونهم، وهو الكيان – الأعجوبة الذي يدخل في الذكرى المئوية الأولى لنشوئه.
هؤلاء السادة النواب سوف يؤدون الواجب الذي تطلّب منهم الانتظار ست سنوات، ومن دونهم لا رئيس للجمهورية اللبنانية.
لكن، على اللبنانيين أن يدفعوا التكاليف الباهظة، وهم يدفعونها دائماً، وسيدفعونها هذه المرة بفرح عظيم، وسوف يتبلّغون مع النواب النبأ السار: سيكون لكم رئيس جمهورية جديد.
ولن تسلم الديموقراطية اللبنانية من التشنيع. إذ لا بدّ أن يقال أن رئيس لبنان يُنصّب أولاً، ثم يُنتخب. وقد يقال ما هو أعظم. لكن كل ذلك يعود ويهون أمام رئيس جديد يكون موثوقاً بأنه لن يفرّط بكيان لبنان.
ولقد سبق للبنان أن واجه من الأخطار والمحن ما بدا في حينه زلزالاً مدمراً ليس بعده قيامته، وها إن لبنان من جديد على أبواب قيامة جديدة. وليس على اللبنانيين إلا المزيد من الصبر والأمل وإن طال الانتظار.
التعليقات