عادل درويش

النجاح السريع للكيان المعروف بـ«داعش» يقابله فشل ملحوظ في احتواء الخطر الفاشي.


في عامين تحولت عصابة إرهابية مجهولة تولي الأدبار من العراق إلى دويلة توسعية مستقلة الموارد بأسلحة متطورة تتحكم في حياة الناس وتجبي الضرائب، وهو ما فشلت فيه «القاعدة» التي تبدو «معتدلة» مقارنة بإرهاب ما يسمى «دولة الخلافة» التي قفزت إلى سيناء وليبيا.


بالمقابل، فشلت سياسة الاحتواء المزدوج: محاصرة توسع «داعش» الكولونيالي، والحد من تجنيد الشباب عربيا وأوروبيا للانضواء في صفوفها رغم إنفاق الحكومات الملايين على صناعة «مقاومة الفكر المتطرف بين الشباب» عبر برامج ساذجة لا تقنع طفلا.


معاهد دراسات وبرامج مقاومة التطرف، تلقت الملايين في شكل دعم حكومي، ولم تقدم أمثلة تذكر لاستعادة شباب من براثن الإرهاب.


الأسبوع الماضي أماطت الـ«واشنطن بوست» اللثام عن أشهر الإرهابيين المعاصرين، «جون الجهادي»، البريطاني من أصل كويتي.


لا مفاجأة في أنه ترعرع في عاصمة الضباب، المعروفة لمخابرات العالم بسخرية «لندنستان»، درس في جامعة وستمنستر (وقسم الصحافة فيها يعتبر «الجزيرة» القطرية مثله الأعلى بسبب السخاء. وللمعهد تاريخ طويل من استضافة أئمة الكراهية ودعاة العنف والإرهاب من مفكري الإخوان وأمثالهم).


لا مفاجأة أيضا في وجود اسمه على قوائم الخطرين في سجلات الأجهزة البريطانية، وكان استوقف في تنزانيا قبل أعوام في طريقه للصومال للالتحاق بحركة الشباب الإرهابية (كان على سجل الأجهزة نفسها بعض مفجري قنابل المترو عام 2005 والشابان اللذان ذبحا المجند لي ريغبي، وفشلت في منع الحادثتين).
ارتفعت التساؤلات عما إذا كانت الاستخبارات حذرت مطارات وموانئ العالم منه؟
اختفى ليلتحق بـ«داعش» وترقى إلى منصب رأس مصلحة قطع الرؤوس في التنظيم.


سارت حكومة ديفيد كاميرون على نهج سابقتها العمالية ونظيراتها الأوروبية في فشل الاحتواء المزدوج.


الناتو يراقب شواطئ ليبيا بعيني النعامة (تهريب «داعش» عبر ليبيا، لإرهابي واحد بين مهاجري كل قارب في المتوسط سينتهي في غضون أشهر بكتيبة كاملة من خلايا الإرهاب النائمة في أوروبا)، متجاهلا مطالب مصر والبلدان العربية بمساعدتها في عمل عسكري فاعل في ليبيا وبلاد الشام. وأرجو ألا ينتقل الفيروس النعامي للحكومات العربية لأنها تواجه خطر جذب «داعش» للشباب المسلم (والشابات في جهاد النكاح).


قبل أسبوعين هربت 3 تلميذات قاصرات مسلمات من مدرستهن اللندنية عبر تركيا إلى سوريا، في ذيل قائمة من 60 بريطانية التحقن بـ«داعش» في الأشهر الـ12 الأخيرة.
ومثل المسؤولين العرب يقع ساسة أوروبا في خطأين؛ تاريخي وسيكوسياسي.


قصر المشكلة على أن الشباب ضلل بتفسير معوج للإسلام، ثم تحويلها لرجال الدين لهداية الشباب إلى الصراط المستقيم هو تفسير سطحي من الناحية السيكوسياسية.
وتاريخيا يخطئ ساسة اليسار (الأوروبي والعربي بشقيه؛ الماركسي والناصري القومجي) والليبراليون في تفسيرهم لردكلة الإسلاميين (radicalization) بتوجيه اللوم لكل من يخطر على بالهم ما عدا الجناة أنفسهم: الشباب المنحرف للإرهاب، كلوم «السياسة الخارجية» الانغلوأميركية وسياسات إسرائيل المستفزة.


أحدث كليشيهات اليسار لتبرير الإرهاب: «تغريب» المسلمين في المجتمع و«الإسلاموفوبيا».


وماذا عن بلدان سياستها الخارجية دعم المسلمين وفلسطين كالبلدان الاسكندنافية وبلجيكا؛ لماذا يلتحق مسلموها بـ«داعش»؟
القنبلة التي صرعت اثنين أمام دار القضاء العالي في القاهرة يوم الاثنين حيث يحاكم أعضاء من الإخوان المسلمين، هي نسخة طبق الأصل من قنبلة الجماعة في المكان نفسه قبل 70 عاما أثناء محاكمة عضويها لوضعهما قنبلة في سينما مزدحمة.
لم تكن إسرائيل ظهرت وقتها، وكانت أميركا نصير الشعوب ضد الاستعمار الأوروبي، بينما كان دعم وتمويل مخابرات بريطانيا للإخوان في صميم سياستها الخارجية.
وهل يعاني المسلمون المتدفقون على «داعش» من بلدان عربية وإسلامية كالفلبين وأفغانستان من «الإسلاموفوبيا» في مجتمعاتهم؟
الشباب لم يضلل بتفسير معوج للإسلام بقدر ما ينجذب منبهرا ببريق آيديولوجيا تبدو منتصرة.


لماذا لا يلتحق الشباب الذي تضطهده المؤسسات والبوليس في أوروبا بتنظيمات يمينية متطرفة بينما يلتحق المسلمون (والبيض من معتنقي الإسلام حديثا) بـ«داعش»؟
لأن الآيديولوجيات النازية والفاشية التقليدية دحرت قبل 70 عاما بعكس النيو - فاشية الداعشية التي نجحت فيما فشلت فيه «القاعدة»: وضع شعارها «دولة الخلافة» محل التطبيق في المشرق وتقفز إلى سيناء وليبيا إرهابا للمصريين لحساب الرحم الذي أنجبها: جماعة الإخوان المسلمين. وتحول رئيس مصلحة قطع الرؤوس في «داعش»، المدعو جون، إلى قدوة للشباب المهووس بآيديولوجيا العنف.
الإرهابي الذي سجل الفيديو بعد ذبح 21 مصريا في ليبيا تقمص شخصية جون ملبسا وقناعا وسكينا تقطر دما، وقلد لغته وأسلوبه محذرا أوروبا «نحن قادمون».


استطلاع لآراء مسلمي بريطانيا وجد 27 في المائة (قرابة 700 ألف) متعاطفين مع قتلة صحافيي مجلة «تشارلي إيبدو». (نصف من واحد في المائة من المتعاطفين تعني 3500 كم داعشي محتمل بينهم؟).


لا بد من إطفاء بريق «الانتصار» الذي يبهر الشباب انجذابا إلى آيديولوجيا العنف الداعشية. المطلوب عمليات عسكرية شاملة توجه ضربة قاضية للكيان المسمى «داعش» وتكنسها من خريطة المنطقة إلى مزبلة التاريخ.
ويجب ألا تعول مصر والأردن وحلفاؤهما على اشتراك الغرب بقيادة أميركا في تنظيف الخريطة من «داعش».


لن يغامر سياسي بريطاني باتخاذ قرار قبل الانتخابات (7 مايو/ أيار). إدارة أوباما لا تزال تراهن على الإسلام السياسي بمشاركة الإخوان في حكم مصر والمنطقة بدافع الاستقرار. وبالقضاء النهائي على «داعش» يضعف الإخوان لمائة عام أو أكثر، وهو ما لا تريده واشنطن أو تركيا. الضربة العسكرية يجب أن تكون عربية، ونجاحها سيرغم أوباما وإردوغان على قبول الأمر الواقع.


وإذا كان الإخوان (بآيديولوجية سيد قطب) هم الأصل العقائدي والتنظيمي لـ«داعش» فالأصل السوسيوبوليتكي (الاجتماعي السياسي) هو نفاق المؤسسات الاجتماعية في صناعة الرأي العام العربي (الصحافة، ونظام التعليم، وبعض الدعاة) بازدواجية المعايير الأخلاقية.


«المحاربون» ضد السوفيات في أفغانستان وضد الصرب في البوسنة الذين مجدت المؤسسات الاجتماعية العربية «بطولاتهم» أمس هم «داعش» اليوم.


إعادة تفسير الدين لأمثال جون الداعشي مضيعة لوقت رجال الدين، والأفضل إعادة صياغة الخطاب للدعوة لنموذج أخلاقي بمعيار مثالي واحد.


إذا كان مفجر القنبلة في شوارعنا إرهابيا، فكيف يكون بطلا أو شهيدا بتفجيرها في شوارع من نراهم خصوما؟
حلفاء الأمس الذين بذل المصريون الدم والمال لحمايتهم هم اليوم أعداء يمولون الإخوان ويسلحونهم.


الخطاب الاجتماعي لمناهج التعليم والمؤسسة الدينية والصحافة يجب أن يكون واضحا مثاليا في استقامة معاييره الأخلاقية.