حمد المانع

الروتين هو البيئة المرضية لكل مسؤول معتل النفس غاية مناه أن يتسلط على الناس ويمارس عليهم مركبات النقص التي تعذبه، حتى يجد ذريعة في اللوائح تمكنه من تعطيل المواطن، حينها تنتفخ ذاته ويشعر بالارتياح!

&


لم أصطدم في حياتي بصخرة كالروتين، ولم تعلق قدمي في حفرة أعمق منه بوسعها أن تبتلع طموحات أمة، إن هي لم تجتهد في تحطيم صخوره الهرمة العملاقة التي تتحطم عليها آمال الشعوب، وحفره العميقة التي تنزلق فيها التطلعات والأحلام.


الروتين تلك البيئة المرضية المثالية لكل مسؤول معتل النفس غاية مناه أن يتسلط على رقاب خلق الله ويمارس عليهم مركبات النقص التي تعذبه، إلى أن يجد مادة أو ذريعة في اللوائح تمكنه من وقف حال المواطن وتعطيله إلى أجل غير مسمى، حينها تنتفخ ذاته ويشعر بالارتياح!
والروتين أيضا هو ذلك المرتع الآمن للفساد والفاسدين الذين يجدون في تعقيدات البيروقراطية سبيلا إلى ابتزاز الناس والاستيلاء على أموالهم من تحت الطاولات، وأحيانا من فوقها، فلا تقضى لك حاجة إلا إذا تدفع المعلوم! فحين يستشري الفساد –عافانا الله وإياكم- حتى حق الإنسان الظاهر لا يأخذه إلا بالرشوة، وقريبا من هذا المعنى أوصاني خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، عندما كان أميرا للرياض وكنت في الوزارة، قائلا: "تعقيد الأمور يسبب إما الواسطة أو الرشوة، وتبسيط الأمور يقطع ذلك على أصحاب الأنفس الضعيفة". فما كان مني إلا أن أخذني الحماس فاجتمعت بأركان الوزارة وجلست أحثهم على تبسيط الإجراءات وتذليل العقبات أمام الناس، وقلت لنبدأ بالتراخيص، وكان لدي طموح لتطبيق نظام يكفل للمتقدم لطلب ترخيص مستشفى أن يحصل عليه في يوم واحد، لكن الروتين كان معنا يسمع ويرى، فأبى إلا أن يتحطم هذا الحلم على واحدة من أكبر صخوره، ألا وهي صخرة تداخل الاختصاصات بين وزارات الدولة، إذ أفادني الزملاء أن هناك جهات حكومية عدة يشترط الحصول على موافقاتها لمنح الترخيص، ولا يمكننا إلزامهم بوقت محدد، إذ لا سلطان لنا عليهم، مثل، البلدية، الزكاة والدخل، الدفاع المدني، وجهات حكومية أخرى. هكذا أجهضت الفكرة، ومثلها أفكار كثيرة أجهضت أيضا تحت وطأة روتين قاس لا يعبأ بالمصلحة الوطنية، ولا يلقي بالاً لرغبة بلادنا في التقدم إلى الأمام بإيقاع أسرع، حتى نكون جهة محفزة للمستثمر السعودي وجاذبة للمستثمر الأجنبي في ظل إجراءات مبسطة سيجني ثمارها المريض الذي ينتظر سريرا فارغا، إن لم يجده في مستشفيات القطاع الخاص فسيطالب به الدولة.


لكن المؤلم حقا والمؤسف في آن، ما ذكره لي أحد الزملاء -لاحقا- من أنه تقدم بطلب ترخيص مستشفى خاص في دبي، وحصل عليه في اليوم نفسه، فلماذا أمكن في دبي ولم يمكن في بلادنا؟ سؤال أرى أنه أصبح يتوجب علينا أنا نقف جميعا أمامه ونجد له إجابة، ولا أحسبها ستشفي الصدور.


وثم صخرة أخرى لا تقل صلابة وعنادا عن سابقتها، ألا وهي صخرة ممثلي وزارة المالية، فلكم كان الزملاء في الوزارة يشتكون من سلطوية بعضهم، وتعاملهم الفوقي مع الجميع، فلم يكن بوسعنا أن نرسي مشروعا أو نجري مناقصة أو نتصرف في ميزانية إلا بعد الرجوع إلى الممثلين الماليين المعينين من قبل وزارة المالية. وليس هذا لوماً لوزارة المالية، بل تطلع إلى فك أعناق الناس من ربقة هذا النظام الإداري، وأرى أن معالي وزير المالية بوسعه اتخاذ الخطوة الأولى، بتخفيف قبضة وزارته على جميع مرافق الدولة، والاكتفاء بمراجعة الإجراءات للتأكد من سلامتها، وأيضا شفافيتها، تماما مثلما يفعل الإخوة في مصر حسبما أفادني وزير الصحة المصري الأسبق الدكتور حاتم الجبلي يوم ضقت ذرعا بممارسات الممثل المالي بالوزارة، فقلت له في مكالمة هاتفية يا دكتور حاتم لدينا وديعة تخصكم كنتم أخذتموها من الأتراك وهي موجودة إن شئتم أن تأخذوها. فقال لي: وما هي؟ قلت له: الممثل المالي. فجاءتني الإجابة الصادمة من الزميل العزيز الذي أدرك معاناتي، حين قال: لا، هذه تركناها منذ زمن، دور المراقب عندنا الآن يبدأ فقط بعد إتمام الترسية للتأكد من نظاميتها.


لقد آن الأوان لأن تضطلع وزارة التخطيط بدورها الذي تنوب عنها فيه وزارة المالية من دون سبب وجيه. أعلم أن الحديث في هذا الشأن حساس، لكنني أيضا أعلم قدر طموح قائد مسيرتنا وأعلم أن ما أتحدث به الآن من صميم مبادئ مدرسته الإدارية التي أتشرف بأنني كنت أحد من تخرجوا فيها واستوعبوا دروسها تماما. وما تحدثت بشأنه اليوم أحد أهم تلك الدروس.
&