&الشيباني أبو همود

&

&

&

&

&


&

&

ازداد الاهتمام الدولي بليبيا في الأشهر الأخيرة، حتى باتت موضوعاً رئيسياً ليس فقط على أجندة مجلس الأمن وإنما أيضاً على أجندة لقاءات غالبية رؤساء العالم وحكوماته. وللأسف فإن محرك هذا الاهتمام لا يعود إلى أهمية ليبيا من الناحية الاقتصادية والنظر إليها كفرصة واعدة يمكن أن تساهم بقدرها في ازدهار الاقتصاد العالمي وفي التخفيف من وطأة الأزمة الاقتصادية التي تعيشها غالبية البلدان المجاورة، وإنما المحرك هو الخطر الذي بات يشكله الوضع غير المستقر في بلادنا. أياً كان سبب الاهتمام وتوقيته فإن ليبيا لا يمكنها إلا الترحيب بهذا الاهتمام وتشجيعه، ومطالبة أكبر عدد من الدول الفاعلة بالانخراط فيه.

غير أن هذا الاتفاق الدولي على ضرورة ضبط الأوضاع في ليبيا ومنع تدهورها بصورة أكبر، لا يعكس في جوهره اتفاقاً حول كيفية القيام بذلك، فغالبية الدول الكبرى المنخرطة في المسألة الليبية وعدد كبير من الدول الإقليمية لا ترى مخرجاً لليبيا من أزمتها إلا عبر مشروع سياسي يتفق عليه عبر الحوار، ويؤدي إما إلى نوع من تقاسم السلطة بين الأطراف المتصارعة أو إلى تحييدها خلال الفترة الانتقالية، وذلك من خلال الاتفاق على حكومة تكنوقراط تُوكل إليها مهمة إدارة الفترة الانتقالية، وهذا هو جوهر مسيرة الحوار الليبي الذي ترعاه الأمم المتحدة عبر السيد برناندنيو ليون (الممثل الخاص للأمين العام). في الوقت نفسه ترى دول إقليمية أخرى أن الأولوية في هذه المرحلة هي للحل العسكري والأمني، وذلك بتقوية ما هو موجود من بقايا الجيش الليبي لضمان وحدة البلاد وإعادة هيبة الدولة، مع عدم رفض المشروع السياسي للسيد ليون، ليبدو الخلاف وكأنه حول الأولويات لا على المبادئ والأُسس.

والحقيقة فإن للمشروعين عواراً يزداد وضوحاً مع دخول الوافد الجديد على المشهد الليبي وهو «داعش» الذي أعلن عن نفسه من خلال جريمته البشعة بذبحه لأكثر من عشرين قبطياً مصرياً، ومن خلال إعلانه السيطرة على مدينة سرت الساحلية. فالطرح السياسي للسيد ليون، على جاذبيته، نظر إليه كثير من الليبيين على إنه مشروع ملغوم سينفجر مع أول تماس مع الأسباب العميقة للأزمة الليبية المتمثلة في انتشار الأسلحة والميليشيات، وعدم وجود مؤسسات عسكرية وأمنية، وعدم قدرة الحكومات المتعاقبة على حماية نفسها، ناهيك عن حماية مواطنيها. فحكومة السيد الكيب كانت حكومة تكنوقراط بامتياز، كما أن حكومة السيد زيدان كانت أوسع حكومة وحدة وطنية في تاريخ ليبيا، ومع ذلك فإن الأمور قد تدهورت في عهديهما إلى أن وصلت إلى وضعها المأسوي الحالي. صحيح أن التجربة العراقية أثبتت بأنه لا يمكن مواجهة «داعش» في ظل الانقسام السياسي وبالتالي فإن الاتفاق السياسي يظل شرطاً لا بد منه، وهذه هي نقطة القوة في رؤية السيد ليون، لكن هذه الرؤية تفتقر إلى الوضوح في ما يتعلق بالجهة التي ستتولى قتال «داعش» والمجموعات المسلحة الأخرى التي سترفض حتماً مخرجات الحوار الليبي.

فالتجارب أثبتت أيضاً بأن (الجيوش التكنوقراطية) لا تصلح في هكذا حروب. فقد تم في العراق استحضار العوامل العرقية (البشمركة) والطائفية (الحشد الشعبي) لمقارعة «الدواعش»، وهذه أوتار لا يمكن اللعب عليها في الحالة الليبية لإنها غير موجودة أصلاً. في المقابل فإن المشروع العسكري يفتقر إلى أي رؤية سياسية تتعلق بمستقبل العملية السياسية وبطريقة إدارة المرحلة الانتقالية، وهي نقاط الخلاف الرئيسية بين السلطات الشرعية المنتخبة في شرق البلاد وبين مجموعات فجر ليبيا التي تمثل ما يمكن أن نسميه المعارضة المسلحة في غرب البلاد.

من الواضح أن الفرقاء الليبيين منقسمون حول هذين المشروعين. فالمعارضة المسلحة في غرب البلاد وبعد أن كانت رافضة وبشدة للمشروع السياسي، هي الأقرب اليوم لهذا الطرح، وذلك بعد أن فشلت كل وسائلها العسكرية والسياسية والقانونية في الاستحواذ على السلطة، شريطة إبعاد الخيار العسكري من المشهد والعودة إلى ما قبل انتخابات 25 حزيران (يونيو) من العام الماضي. الحكومة الليبية تدعم بكل تأكيد المشروع السياسي شريطة أن لا يأتي على حساب المشروع العسكري الذي أصبح أولوية الأولويات بعد ظهور «داعش» وبعد العمليات الإرهابية الأخيرة في شرق البلاد وغربها.

الحل ربما يمكن في دمج المشروعين معاً بحيث لا يأتي أحدهما على حساب الأخر. بمعنى اتفاق على حكومة تكنوقراط محايدة تتولى إدارة البلاد، ويقوم المجتمع الدولي بحمايتها وبمساعدتها في جمع الأسلحة، مع الإبقاء على الزخم الوطني الذي أحدثته عملية الكرامة منذ انطلاقها في أيار (مايو) من العام الماضي، وتوجيه هذا الزخم لمحاربة «داعش» وكل المجموعات المسلحة التي لا تقبل بمخرجات الحوار، على أن يضمن المجتمع الدولي أن لا تحل عملية الكرامة محل العملية السياسية.

إن زخم هذه العملية هو البديل الوحيد المنظور حالياً لتعويض الزخم العرقي والمذهبي اللذين تم الاستنجاد بهما لمواجهة «داعش» في العراق. الخصوم السياسيون لعملية الكرامة يرون فيها محاولة انقلابية ستؤدي إلى عودة حكم العسكر، فإذا ضمن المجتمع الدولي عدم قفزها على المسار السياسي انتفت عندها أسباب الاختلاف حولها. المؤكد هو أن المواجهة المرتقبة مع «داعش» ستكون أشبه بالحرب الأهلية، وبالتالي لا يمكن خوضها لا في ظل الانقسام السياسي الحالي ولا بالأماني والشعارات، وكلما تأخرت هذه المواجهة كلما ازداد «داعش» قوة وانتشاراً، فهو اليوم في سرت ولكن عينه حتماً على مصراتة حيث المال والسلاح وعلى طرابلس لرمزيتها السياسية والتاريخية. إن أي مشروع لا يحمل في طياته اتفاقاً على مصير العملية السياسية وعلى رؤية واقعية للجهة التي ستقوم بالتصدي لـ «داعش» وأخواته لن يُكتب له النجاح، وقد تفرض المعطيات على الأرض على الجميع مراجعة سلم أولوياتهم ليكتشفوا سريعاً بأن حُلم الديموقراطية لم يعد للأسف في بداية هذا السلم، لأن الأمن يسبق الحرية في كل مكان وزمان.

&


&