بعد هزيمة 1967 كسدت البضاعة القومية والتقدمية واليسارية، وتراجع الطلب عليها، فقل عرضها حتى العدم، وأقبل الناس أفواجاً بحكم الأزمة النفسية العامة على البضاعة الدينية
&
&محمد أبو كريشة
عندما انتهت حرب الخامس من يونيو عام 1967 بهزيمة ساحقة للعرب، واحتلال إسرائيل سيناء والجولان والقدس والضفة الغربية وغزة سميَّنا نحن العرب تلك الهزيمة الموجعة نكسة كعادتنا في اختراع أسماء وألقاب للتهوين من أمر محزن ومؤلم ،أو للتهويل في أمر سار ومفرح.
وكانت حرب يونيو 1967 بداية لما يسمى في الأدبيات العربية المتخمة بالألفاظ «المد الديني»، والحق أنها كانت بداية «المد» الإرهابي ونقطة انطلاق التطرف والغلو على الجانبين العربي والإسرائيلي، أو على الجانبين الإسلامي واليهودي.
كانت حرب 1967 إيذاناً بانحسار المد القومي العربي وقيادة القوميين واليساريين أو التقدميين للمشهد العربي والمشهد الإسرائيلي معاً لتحل محلها قيادة رجال الدين على الجانبين للمشهدين، فصعد الحاخامات، ومعهم الأحزاب الدينية المتطرفة إلى السلطة في إسرائيل، وتحكم من نسميهم العلماء والدعاة في مفاصل السلطة والمجتمع على الجانب العربي دون أن يصعدوا إلى هذه السلطة.
وتسلم هؤلاء أدمغة وعقول الشعوب المترنحة بعد الهزيمة النكراء والخارجة لتوها من ضربة مؤلمة وقاتلة جعلتها تكفر تماماً بالقومية العربية أو بالخيار القومي، وتلوذ بخيار سمته الخيار الديني، وهو في الحقيقة خيار الإرهاب والغلو والتطرف.
كان ما سموه الخيار الديني عند العرب انعكاساً لحالة نفسية سيئة، وكان رد فعل، ولم يكن فعلاً عقلياً وهو يشبه تماماً حالة شخص فقد عزيزاً لديه، أباً، أو ابناً أو أخاً، فقطع كل علاقاته بالناس والحياة وتخلى عن مرحه وانطلاقه، وانغمس، أو غمسه آخرون في الطقوس التي يسمونها دينية وجندوه لمصلحة قناعاتهم، مستغلين انهياره النفسي واقنعوه بأن ما كان فيه من مرح وانطلاق هو الذي أصابه بغضب الله فعاقبه بموت هذا العزيز، وعليه أن يجاهد في سبيل الله وينفذ عمليات انتحارية ليلحق بمن فقده في الجنة.
كان الاتجاه إلى الغلو والإرهاب بعد هزيمة 1967 جماعياً نتيجة للوباء النفسي والجرح الشعبي العميق، وكان ناجماً عن كراهية عامة لكل ما هو قومي وعربي وتقدمي، ولم يكن ناجماً عن حب لله أو للدين، وكل موقف يولد من كراهية وسخط يعد موقفاً مرضياً وليس صحياً، ويعد موقفاً انفعالياً وليس عقلياً. والمواقف الانفعالية سمة عربية أصيلة، حتى الموقف القومي العروبي قبل عام 1967 كان موقفاً شعارياً انفعالياً هتافياً ولم يكن أبداً موقفاً فكرياً ولا عقلياً.
وعندما تحولنا إلى الدين أو ما سميناه المد الديني كان الموقف أيضاً وما زال حنجورياً هتافياً شعارياً انفعالياً، وكان المشهد في الحالتين القومية والدينية دموياً.
ففي الحقبة القومية، كانت العمليات الدموية تسمى فدائية، وفي الحقبة الدينية نسميها الآن عمليات استشهادية، وتحول الفدائيون إلى استشهاديين. وفي الحقبة القومية كان القتل والانتحار باسم القومية، وفي الحقبة الدينية يرتكب القتلة والمنتحرون جرائمهم باسم الله.
وتحول الكفاح والنضال إلى جهاد، وليس بمستغرب في ظل الحالة الوبائية النفسية بعد هزيمة 1967 أن يتحول غلاة الشيوعيين واليساريين والتقدميين و«البعثيين» والناصريين إلى غلاة الإرهابيين والمتطرفين باسم الدين، لأن التطرف والإرهاب والغلو سمات عربية تحت أي راية أو علم أو لافتة، حتى
أرباب القلم الذين كانوا من منظري الشيوعية واليسار تحولوا إلى منظرين للإرهاب والتطرف والغلو باسم الدين وتاريخ هؤلاء جميعاً معروف، كيف كانوا وكيف أصبحوا. وعندما سقط أو تداعى المشروع القومي الهش والقائم على الحناجر كان هناك مشروع آخر جاهز ليحل محله وينشأ على أنقاضه وهو مشروع جماعة «الإخوان» التي اكتسبت تعاطفاً شعبياً كبيراً بعد انهيار المشروع القومي بضربة 1967 القاضية.
وكانت جماعة «الإخوان» وما زالت تلعب بورقة الاضطهاد، وأنها تتعرض للملاحقة لأنها تدعو إلى الله وأن نهجها وشعارها هو «دعاة لا قضاة» أي أنها سلمية دعوية ولاد خل لها بالسياسة ولا تحاكم أحداً..وابتلع العرب شعبياً ورسمياً الطعم الإخواني كالعادة، فالعرب لا يكفون عن ابتلاع الطعم تلو الآخر حتى أصبحوا فريسة سهلة وصيداً يسيراً لأغبى الناس في العالم العربي والعالم كله، فالمشكلة العربية المزمنة ليست أبداً ذكاء الصياد، ولكنها بلاهة وغباء الفريسة.
ونقل العطاء من المشروع القومي إلى المشروع «الإخواني» وتفرعاته الإرهابية كان له أيضاً بعد مادي، فعندما راجت البضاعة القومية واليسارية والشيوعية قبل عام 1967 مارسها كل من هب ودب، وهرول إلى سوق السياسة كل من أراد الثراء.
فقد كان المال كله في يد القوميين والاشتراكيين، وكان الدفع لهم وحدهم لشراء ولائهم أو لخطب ودهم أو لتجنب هجائهم.
وبعد هزيمة 1967 انتقل مركز الثقل المادي إلى «الإخوان» وفروعهم الإرهابية، وكان هناك فريق عربي يود الإجهاز تماماً على المشروع القومي والشيوعي، فاستعان بمن نسميهم الإسلاميين لضرب ما تبقى من القوميين، وكان سلاح المال حاضراً بقوّة لتسمين هؤلاء المتطرفين الإسلاميين ليضربوا المتطرفين القوميين.
ولأن البورصة الدينية هي التي صارت أكثر نشاطاً وثراء بعد 1967 انتقل إليها مئات القوميين بعد تعرض مشروعهم للفقر والإفلاس السياسي والمالي..ولم يعد عجيباً أن يصبح قادة المشروع القومي واليساري هم أنفسهم قادة المشروع «الإخواني» الإرهابي، عملاً بالمثل العامي المصري الشهير (اللي تكسب به العب به)، ولا أحد في أمتنا العربية يتبنى موقفاً أو فكرة لله وللوطن، ولكنه يتبناها إذا كان هناك ممول متحمس للفكرة أو الموقف أو المشروع.
فالمشروع السياسي أو الديني أو الثقافي في أمتنا يشبه تماماً المشروع التجاري والأساس في كل المشروعات هو الممول.
تماماً مثل أفلام السينما ينتشر فيها الفكر الهابط أو المسف، أو اللا فكر، لأن الممول (عايز كدة) والجمهور أيضاً (عايز كدة)، وهكذا خضعت السياسة في أمة العرب لقانون العرض والطلب الاقتصادي، فبعد هزيمة 1967 كسدت البضاعة القومية والتقدمية واليسارية، وتراجع الطلب عليها. فقل عرضها حتى العدم.
وأقبل الناس أفواجاً بحكم الأزمة النفسية العامة على البضاعة الدينية، أو قل المسكرات والمخدرات التي ترفع لافتة الدين، فازداد عرضها، وتحول تجار القومية والتقدمية والشيوعية إلى نشاط التجارة الدينية ليربحوا أكثر.
وكل هذا وغيره مما سنقوله إن كان في العمر بقية، سببه الأساسي وربما الوحيد أننا نحن العرب عندما نريد تبني موقف أو مبدأ أو فكرة، لا نضع أيدينا على قلوبنا، ولكننا نضعها على جيوبنا، لذلك لا نعرف عيوبنا، وتلك كانت الضربة القاضية في الخمسين عاماً الماضية!
&
التعليقات