خليل علي حيدر
&

لم يمض على تشكيل اولى جماعات «الاخوان المسلمين» سوى اربع سنوات، حتى بادرت بالزحف على الوسط السياسي المصري، ففي عام 1932 قول «طارق البشري»، انتقل «حسن البنا» الى القاهرة مدرسا بمدرسة عباس بالسبتية، وانتقل مركز ثقل الدعوة الى العاصمة، وتعددت نواحي نشاط الجماعة، كما اصدرت مجلة اسبوعية باسمها استعدادا لجعلها صحيفة يومية «وكان من اهم تطورات الجماعة انها بدأت تركز نشاطها في الدعوة على محيط الجامعة والمدارس والازهر، وانشأت قسما للطلاب بداخلها، وانها بدأت تنظم تشكيلات من فرق الكشافة، وهي بذلك تحاول السيطرة على حركة الشباب مع توجيههم الى تشكيلات ذات طابع عسكري ترتبط بها، والتطور المهم الذي صادفته ايضا انها بدأت تتصدى للمسائل السياسية باتخاذ مواقف من الحكومة ومن الاحزاب (الحركة السياسية في مصر 1952-1945 القاهرة، الطبعة الثانية 1983 ص46).
كان تصدي الجماعة للأوضاع السياسية يتم من خلال مهاجمة الحزبية، وكان الهدف الاول لهذا الهجوم على الحزبية «حزب الوفد» وكان التهجم على الزعامة «يحمل غمزا واضحا في الزعامة الوفدية، باعتبارها الزعامة الجماهيرية الوحيدة وقتها». (البشري، ص 46).


وكان مأخذ الاخوان على احزاب ذلك الزمن يكاد ينطبق اليوم على جماعة الاخوان! يقول المرشد البنا في مذكراته: «يجب ان يكون الزعيم زعيما تربى ليكون كذلك، لا زعيما خلقته الضرورة، وزعمته الحوادث فحسب، او زعيما حيث لا زعيم، بيد ان زعماء خلقتهم الظروف ارادوا ان يستعجلوا النتائج قبل الوسائل، وخدعتهم غرارتهم بقيادة الشعوب ومكائد السياسة»، أليس هذا بعض ما وقع للاخوان اخيرا؟.
وأخذ المرشد البنا على زعماء الاحزاب والتيارات كذلك غياب البرامج النهضوية وعدم امتلاك حلول حقيقية ناجعة لمشاكل مصر.
«سل اي زعيم سياسي، رئيس الوفد او رئيس الاحرار او رئيس حزب الشعب او رئيس حزب الاتحاد، عن المنهج الذي اعده للنهوض بالامة والسير بها». (البشري، ص 46).
الا ينطبق هذا على الاسلاميين المعاصرين لنا؟


اختارت الجماعة لظهورها المؤتمر الخامس للحزب سنة 1938 حيث القى المرشد خطابا جامعا تحدث فيه عن غاية الاخوان ووسائلهم وموقفهم من الهيئات المختلفة، ولخص الخطاب اهم تطورات الجماعة منذ تأسيسها عام 1928 قبل عشر سنوات من المؤتمر، وكان مما جاء في خطابه المطول اشارته الى ان «الاسلام عقيدة وعبادة، ووطن وجنسية، ودين ودولة، وروحانية وعمل، ومصحف وسيف»، وبهذا ارسى المرشد اركان «الاسلام السياسي»، كعقيدة، حركية شمولية لسنوات طويلة لا تزال مستمرة!
كما مهدت بشارته هذه لدخول العنف والاكراه في الحياة السياسية.. مع السيف الذي اشار اليه!
وقال في خطابه: «القوة شعار الاسلام في كل نظمه وتشريعاته، ولكن الاخوان المسلمين اعمق فكرا وابعد نظرا من ان تستهويهم سطحية الاعمال والفكر»، وقال: ان القوة درجات تبدأ بالعقيدة والايمان، ثم الارتباط، ثم بعدها قوة الساعد والسلاح»، وبين المرشد في هذا المجال انه «لا يصح ان توصف جماعة بالقوة حتى تتوافر لها هذه المعاني جميعا»، وقال ان «الثورة اعنف مظاهر القوة»، واضاف «واما الثورة فلا يفكر الاخوان المسلمون فيها، ولا يعتمدون عليها، ولا يؤمنون بنفعها ونتائجها»، ولكن لابد لكل حكومة أن تحل المشاكل وتصلح الاحوال كي تتجنب «ثورة ليست من عمل الاخوان المسلمين ولا من دعوتهم»، ولكن من ضغط الظروف ومقتضيات الاحوال، واهمال مرافق الاصلاح».
متى اذن سيلجأ الاخوان لاستخدام القوة؟ يجيب البنا في ذلك الخطاب، «ان الاخوان سيستخدمون القوة العملية حيث لا يجدي غيرها، وهم حين يستخدمون هذه القوة سيكونون شرفاء صرحاء وسينذرون اولا».
فالواقع ان الاخوان يؤمنون باستخدام العنف في مرحلة ما.. ان ضمنوا النتائج خاصة! وبمثل هذه الآراء والاحتمالات، وضع المرشد البنا الاطار الغامض لتأرجح موقف الاخوان في مختلف المراحل والظروف والبلدان، بين الاصلاح والثورة، وبين التعايش والتمرد، وبين خيار التحالف والتآلف مع نظام ما، او السعي للحفر تحت بنيانه وهدمه.
وعبر المرشد عن زهد الاخوان في تسلم السلطة ودفة الحكم: «الاخوان اعقل واحزم من ان يتقدموا لمهمة الحكم ونفوس الامة على هذه الحال، فلابد من فترة تنتشر فيها مبادئ الاخوان وتسود، ويتعلم فيها الشعب كيف يؤثر المصلحة العامة على المصلحة الخاصة» (رسائل البنا، المؤتمر الخامس).


ولربما، اذا نظرنا الى المستقبل يومذاك، نجد ان الشعب المصري كان مستعدا على الارجح عام 2012 للرضا والاقتناع بحكم الاخوان وزعامة د.محمد مرسي، حيث تعلم الشعب «كيف يؤثر المصلحة العامة على المصلحة الخاصة»، فهل كان المصريون قد تشبعوا حقا بفكر الاخوان عندما فاز د.مرسي؟
ونعود الى ما يقوله طارق البشري عن ظروف عام 1938 السياسية عندما قرر الاخوان اهتبال الفرصة والبروز، فقد كانت معاهدة 1936 قد ابرمت وهزت شعبية «الوفد» الذي شارك في ابرامها، وكان الصراع محتدما بين حزب الوفد وبين الملك مستعينا بأحزاب اخرى للقضاء على نفوذ الوفد ومكانته، وارادت هذه الاحزاب ان يخلو لها وجه الحياة السياسية من دونه، وكان البلاط او سراي الحكم تواقا الى قوة جماهيرية تسند الملك فاروق الذي تولى المُلك صبيا، وفي هذا الوقت، ثلاثينيات القرن العشرين، كانت المانيا وايطاليا تزدادان نفوذا، وكانت نذر الحرب العالمية تتجمع، ورأى النظام ان يوثق صلته بمن قد يهيمن على العالم، فجاهر بتعاطفه مع هاتين القوتين، اي «دول المحور»، بتوجيه من «علي ماهر»، رئيس الديوان الملكي.
واتاحت ثورة فلسطين 1936 للبنا ضالته للعمل والتوسع، واكسبه تأييده هذه الثورة مع الشعب المصري عامة، عطف مفتي فلسطين «الحاج امين الحسيني»، واتصل «البنا» بحكام البلاد العربية والاسلامية وملوكها وبدأ يهاجم السياسة البريطانية، كما تقرب الى البنا «علي ماهر» والدبلوماسي والوزير «عبدالرحمن عزام» بصلاته العربية الواسعة وميوله القومية، ليستفيدا من نشاطه الجم، وتنظيم جماعته الدقيق، وليكسبا منه دعما لهما في الميدان العربي، اما حسن البنا، فقد استهدف استغلال هذه الصلة في تقوية نفوذ جماعته، وقد اوضح في افتتاحية العدد الاول من «مجلة النذير» الاخوانية، ان الجماعة انتشرت وبلغ عدد شعبها ثلاثمائة شعبة، وبسبب تنامي قوة الاخوان فيما يبدو، اشارت الافتتاحية الى ان الجماعة ستنتقل «من دعوة الكلام وحده الى دعوة الكلام المصحوب بالنضال والاعمال»، ثم حدد منهجه بانه سيبدأ توجيه دعوته الى قادة البلد ورجال السياسة والحكم والاحزاب، ووجه البنا حديثه للاخوان بقوله انهم لم يكونوا في الماضي يخاصمون اي حزب او هيئة ولا ينضمون اليه، اما الآن فلن يكون هذا الموقف السلبي هو الموقف المناسب، بل «ستخاصمون هؤلاء جميعا – اي الاحزاب ورجال السياسة – في الحكم وخارجه خصومة شديدة لديدة ان لم يستجيبوا لكم».. ثم اختتم حديثه بقوله: «وان لنا في جلالة الملك المسلم أيده الله أملا» (البشري ص48).
وقد ترتب على هذا الانذار شقاق داخل الجماعة بين الدين والدنيا، بين اتجاه المرشد ومن كان يرغب من الاعضاء في ان يقتصر نشاط الجماعة على شؤون الدين والبر فقط، وهو جدل يتجدد دائما وانقسام يتكرر داخل الجماعة مع كل موقف سياسي مفصلي، وهو ما نرى نموذجا له اليوم، بعد اسقاط نظام د.محمد مرسي في مصر، وكذلك لدى الاخوان في دول اخرى.
وينقل البشري عن «كتاب هاريس Christina Haris» «الوطنية والثورة في مصر Nationalism and Revolution in Egypt»، و«كتاب الاتجاهات السياسية والدينية في مصر الحديثة لهيورش ديون Heyworch-Dunne»، وهو كتاب Religious and Political Trends in modern Egypt، انه اجتمع جماعة من افضل ممثلي الاخوان ووجهوا انذارا الى المرشد الشيخ حسن البنا، بطرد «احمد السكري» لاتجاهاته السياسية، وبقطع الجماعة كل اتصالاتها السياسية خاصة مع «علي ماهر» ولكن المرشد رفض قبول الانذار وطرد من وقفوا ضده وهددهم بابلاغ البوليس عنهم ان هم اذاعوا اسرار الجماعة».
ويضيف «البشري» ان كتاب «هاريس»، ذكر ان من الشواهد ما يثبت ان البوليس كان يحمي حسن البنا، وانه في هذا الوقت نما اكثر واكثر الطابع الديكتاتوري لحسن البنا في الجماعة، واصبح واضحا انه ينوي قيادة الحركة في ميدان السياسة.
واتاح الصراع بين الاحزاب المصرية وكذلك توجهات السلطة ومخاوفها للاخوان الحصول على الكثير من الامتيازات مثل اطلاق اليد في العمل الدعوي في زمن حكومة الوفد عام 1942، حيث تظاهرت جماعة الاخوان بالوداعة والاستكانة وهجر السياسة لتكون دعوة دينية بحتة، حتى جاءت «حكومة السعديين» في نهاية 1944، ومن الامثلة السماح للاخوان بتشكيل فرق الجوالة، بعكس بقية الاحزاب التي طبق عليها القانون الخاص بالاقمصة الملونة واتخاذ التشكيلات العسكرية وشبه العسكرية، حيث بلغ عدد جوالة الاخوان في فترة من الفترات عشرين الفا، كان باستطاعة قيادة الاخوان تعبئتهم في أي مكان تشاء، كما ان قانون الكشافة كان يحظر على الكشافة ان تنتمي الى اي جماعة سياسية او دينية، وكان هذا الحظر ايضا مما لم يطبق على الاخوان.
على العكس، تم تشجيع الاخوان في تعبئة الجوالة وعسكرتهم ضد حزب «الوفد»، فكانت الجوالة تملأ المدن والقرى وتظهر قوتها وبطشها، كما كانت اجتماعات الاخوان تعقد تحت حماية هذا الجيش المنظم من دون اعتراض من السلطات، ومما يدل على نوعية تعبئة وتدريب هؤلاء «الجوالة»، ان قاتل «النقراشي» ذكر في التحقيق ان انتقاله من نظام الجوالة بالاخوان الى التنظيم السري للاخوان او ما يسمونه في أدبياتهم تمويها «النظام الخاص»، قد تم من دون ان يحس تغييراً طرأ على وضعه «لاتفاق النظامين في التدريبات واسلوب التعامل والعلاقات داخل التنظيم» (البشري، ص50).


الى جانب هذه التسهيلات، كانت الحكومات المصرية المتوالية كما يشير «البشري»، تستعين بمرشد الاخوان وتعينه في لجانها العليا «لجان التعليم.. الخ» كما كانت الجماعة تنشئ مؤسساتها الاجتماعية كالمستشفيات والمدارس وجمعيات البر تحت اشراف وزارة الشؤون الاجتماعية، وتمنح الاعانات من هذه الوزارة، وقد بلغ عدد شعب جماعة الاخوان المسجلة في الوزارة ما يزيد على 500 شعبة، كانت كلها تمنح اعانات او بسبيل ان تعان. وكانت مجالس المديريات والبلديات تسارع في كل مكان الى مساعدتها.
ونحن نجد الكثير من الحكومات العربية بما فيها الخليجية ومنها الكويتية تقيم نفس العلاقات مع الاخوان المسلمين على امتداد سنوات طويلة منذ 1970 على الاقل، وهكذا هيمن الاخوان فترة لا يستهان بها على مناهج التعليم وادارة المدارس ووجهوا العملية التعليمية في جوانب عديدة، كما كان للاخوان وجود مؤثر في لجان وزارية ومؤسسات اخرى كالاوقاف وهيئات الشباب في الكويت وغيرها.
خلف هذا الملمس الخارجي الناعم والمتعاون، كانت جماعة الاخوان في مصر والعالم العربي وغيرها، ماضية في تسييس الدعوة والاقتراب احيانا من مراكز القوة والسلطة، في مذكراته يكتب البنا: «نحن مسلمون وكفى. ومنهاجنا منهج رسول الله (ص) وكفى. وعقيدتنا مستمدة من كتاب الله وسنة رسوله وكفى»، ويتهم المتشككين في اهداف الاخوان، بان مثل هذا الشخص اما غير دارس للاسلام او «مريض القلب»، وعندما ظهرت مجلة النذير، يقول البشري، اعلن المرشد في عددها الاول «ان الاسلام عبادة وقيادة ودين ودولة، وروحانية وعمل وصلاة وجهاد وطاعة وحكم ومصحف وسيف»، فحق للجميع – يقول البشري - «ان يتساءلوا فيم سيستعمل السيف، والى صدر من سيوجه، وما الهدف من وصول الجماعة الى الحكم والسيطرة على الدولة، ومن سيكون الحاكم وقتها ومن سيكون المحكوم، وخطورة الامر ان هذا الكلام ليس مجرد رأي يلقيه احد الكتاب، ولكنه موقف لتنظيم يستطيع ان يمسك السيف».

&
&