مصطفى أحمد النعمان
مرة جديدة وأتمنى أن تكون الأخيرة تتعرض عدن إلى النزيف والدمار، وكانت كل المعارك التي دفعت ثمنها منفردة في السابق نتاج صراع محموم على الحكم ولكنها هذه المرة فاقت سابقاتها في الآثار التي ستترتب على حجم الخسائر الهائلة والجروح التي ستظل مفتوحة زمنا طويلا قد يخفف من وطأتها وقسوتها، ولكنه لن ينهي الأحقاد التي انتشرت باليمن وعلى الروابط الإنسانية بين اليمنيين، ولا يمكنني فهم واستيعاب أي مبررات سيسوقها الفكر الذي خطط وقرر ثم نفذ هذه العملية المقيتة والمرفوضة أخلاقيا ووطنيا وأخذ معه الوطن إلى التهلكة.
ستنتهي بعد أيام أو أسابيع أو أشهر هذه الكارثة التي حلت على الوطن جراء الأحقاد والعبثية والجشع التي تملكت الطبقة السياسية اليمنية على مختلف مستوياتها وصار المواطن بالنسبة لها مجرد قطعة رثة لا قيمة له في حساباتهم ويحركون عبره شهواتهم، واستباحوا كل قيم الإنسانية والمواطنة فصارت الساحة ميدانا ملوثا لألاعيبهم ومناوراتهم التي لم يكن الوطن هما فيها، ومن السهل إلقاء الاتهامات بالتقصير والخيانة والكسل والإهمال ولكنها لن تسترجع {شهيدا} إلى الحياة ولن تعيد منزلا تهدم ولن تلئم جراح الحرب ولن تهدئ من روع أطفال فقدوا براءتهم وصاروا إما وقودا للدمار أو شهودا عليها.
حين يتوقف الطيران عن قذف حممه وحين تصمت المدافع والأسلحة عن إطلاق نيرانها ستتضح جليا المصيبة التي آلت البلاد إليها ومدى التمزق في بنيتها الاجتماعية وهول الفظائع التي نجمت عنها وحجم الخسائر المادية والنفسية التي فاقت في أسابيع ما خسره اليمن في كل حروبه الداخلية السابقة، وحين يصبح المشهد مكتملا ستكون الفاجعة قد اكتملت عناصرها.
كان الإصرار على اقتحام المدينة المسالمة عدن التي وقع عليها الظلم الأكبر منذ يوم استقلال الجنوب في 30 نوفمبر (تشرين الثاني) 1967 ثم صراعات الرفاق والتصفيات المتتالية لقيادات الحزب وصولا إلى الحرب الضروس في 13 يناير (كانون الثاني) 1986 حتى وصلنا إلى ما كنا نتمنى أن يكون آخر حروب عدن في 1994، غير مفهوم ولا معقول إلا إذا رأيناه من زاوية واحدة: أن تصبح هذه المدينة المظلومة دوما ورقة تفاوضية حين تكون طاولة المباحثات هي الخاتمة لعبثية السياسيين ونزقهم وغرورهم وأنانيتهم... وذلك أمر يرمز إلى استبعاد وانتهاك وتدمير فكرة الوطن والوطنية، فهل يجوز فعل كل هذا الدمار في درة مدن اليمن التي كانت المأوى لكل هارب من ضيم صنعاء وغضبها منذ أيام حكم الإمام يحيى في مطلع الثلاثينات؟.. هل يساوي كرسي الحكم كل هذه الدماء والأشلاء والأطلال؟ هذان السؤالان لن يجيب عنهما سوى الذين أشعلوا نار الفتنة وأصروا على اقتحام عدن من جانب وأولئك الذين تخلوا عن مسؤوليتهم الوطنية و(الدستورية) وفروا تاركين الناس لمصيرهم المحتوم كي يتفرغوا لإطلاق التصريحات والتقاط الصور، بينما عدن واليمن محاطين بنيران تلتهم العشب اليابس الذي أبقته الحروب الداخلية المتكررة.
إن ما يجري على الأرض سيخلف آثارا سلبية مهولة وسيكون صعبا الدعوة إلى حوار تبحث فيه قضايا الوطن وكيفية التوقف عن العبث بمصيره وربطه بتحالفات تجلب عليه الضرر، وإنهاكه بحروب متواصلة لا طائل من ورائها سوى المجد الشخصي، ومن هنا فإن التفكير والجهد يجب أن ينصبا حول الخطوة الأولى لوقف هذه الحرب وهو ما يستدعي بداية تنازل كل الأطراف عن غيها.
أثبتت متتالية الأحداث التي أوصلتنا إلى هذه الحالة المأساوية أن الخلاف الرئيسي كان منحصرا بمطالبة الحوثيين المشاركة في السلطة على كافة مستوياتها إلا أنهم في واقع الحال كانوا يتعاملون مع الأمر كما لو كانوا الممثلين الوحيدين لليمنيين الزيود ونصبوا أنفسهم أصحاب حق إلهي يمنحهم سلطة الاعتراض على كل قرار وكل تعيين في المواقع العليا وإجبار الأطراف الأخرى على السير معهم تفاديا للاصطدام بقوتهم، وفي المقابل كان هوس السلطة المسيطر على الأطراف الأخرى يستنزف كل الجهود التي بذلتها أطراف إقليمية ودولية، ولا يجوز إعفاء أي حزب سياسي من مسؤولية الكارثة التي يمر بها اليمن، فعبر حزب الإصلاح عن الانتهازية السياسية الفاضحة في أوضح تجلياتها، وزاد أن غلفها بالتقوى والزهد وتمرس باستبدال تحالفاته في كل مرحلة بما يتوافق مع مطامعه الذاتية، ووصفهم مبعوث الأمم المتحدة جمال بنعمر بالمنافقين حد الانبطاح مقابل الحصول على أي حصة في الحكم يهبهم إياه الحوثيون.. ثم هناك حزب المؤتمر الشعبي الذي لم يتقبل فكرة الخروج من السلطة المطلقة التي تحكم بها عبر الرئيس السابق علي عبد الله صالح الذي مارس دورا سلبيا لا يغتفر في الأحداث ولا يمكن إنكاره، فقد أربك المشهد السياسي وتعمد كثيرا عرقلة أي تقدم في سير العملية السياسية وظل مسكونا طيلة 3 سنوات بالانتقام من الذين أزاحوه عن الحكم ثم حاولوا قتله داخل الجامع، أما بقية الأحزاب فليست أكثر من أصوات صاخبة مزعجة لكنها غير مؤثرة ولا تمثل رقما حقيقيا فاعلا.
اليوم نحن أمام أوضاع ما زالت كل الأطراف الداخلية غير قادرة على التخلص من إرثها، الذي لا يحمل إيجابية واحدة، وتدير الأمور بنفس الأسلوب القديم بالانتقام وانتظار فرص الانقضاض على خصومهم.
فما العمل؟
إن أي دعوة للحوار في هذا الوقت لن تلقى استجابة إلا من الأطراف التي لا ناقة لها فيها ولا جمل، فعملية الاستقطاب الطبيعية الحالية ستزيد من عمق الفجوة بين القوى الداخلية وسيكون صعبا ردمها أيا كانت المحصلة النهائية للمعركة على الأرض، لأن الحروب قد تنتهي بإقصاء طرف أو إضعافه، ولكن بقاء الجروح الغائرة وتزايد انعدام الثقة والخوف كلها عوامل تجعل دورة الحروب مفتوحة، وتعيد المشاهد التي نراها ماثلة أمامنا في كل قطر عربي فواجع ما يمكن أن تجرى في اليمن ولعلها تعيد بعض الرشد إلى المتحكمين بالسلاح، كما أن ما يحدث من سفك للدماء البريئة يلزم اليمنيين البحث عن مسار مواز يضع حدا لآلام الضعفاء وما تبقى من أطلال وطن وقد يبدو هذا أمرا مثاليا في هذه الظروف، وأن ما حدث في عدن يوم الخميس الماضي هو فصل الختام في الأمل الذي راود اليمنيين وعاشوا حلمهم الجميل فيه، لأنه يندرج بامتياز تحت مسمى الجنون.
كم هو محزن ومحبط ومؤلم أن يعيش اليمنيون حياتهم ضحية هذا الإسفاف السياسي الذي تمارسه كل القيادات المترعة بالفساد والبعد عن المسؤولية بينما يدفع الوطن كامل تكلفته، وبسببهم يعيش المواطن اليمني النبيل مشردا في أصقاع الأرض يذرف دموعه على وطن أضاعته الأهواء واستلب أحلامه اللصوص.
&
&
التعليقات