«جبهة النصرة».. والتلويح بتطبيق الشريعة في إدلب

حسن بن سالم

فور سقوط مدينة إدلب على يد جيش الفتح وجبهة النصرة، التي باتت ثاني مركز محافظة يخرج عن سيطرة الحكومة السورية بعد مدينة الرقة، التي لا تزال تحت سيطرة تنظيم داعش، توالت النداءات والدعوات من المعارضة والنشطاء وسكان المدينة بضرورة تسليم المدينة إلى إدارة مدنية ترعى وتشرف على تسيير الأمور الخدمية والإدارية والقضائية؛ من أجل تجنيب المدينة تكرار كارثة مدينة الرقة، التي حررتها المعارضة بمختلف فصائلها وآل أمرها إلى أن تصبح عاصمة تنظيم داعش.

&

كانت أولى التصريحات من حركة أحرار الشام أهم مكون في جيش الفتح مصدر ترحيب من المعارضة السياسية والائتلاف السوري، بأن المدينة ستكون تحت إدارة مدنية وحماية عسكرية، ووجه زعيمها خطابه إلى أهالي إدلب بدعوتهم للمشاركة في جهاد إخوانهم بإدارة المدينة والقيام بشؤونها، في وقت أكد القيادي البارز في النصرة الداعية السعودي عبدالله المحيسني أن من حرر إدلب هو من سيحكمها، وذلك رداً على إعلان الحكومة السورية الموقتة في سعيها لأن تكون إدلب مقراً لها، ولم تمضٍ أيام معدودة على الترحيب والتفاؤل بتلك التصريحات، حتى جاء الموقف الرسمي لجبهة النصرة في رسالة صوتية نشرت على الإنترنت للمسؤول العام عن الجبهة أبو محمد الجولاني، كان أهم ما جاء فيها هو: «تأكيده على عدم النصرة بحكم المدينة من دون غيرهم، والحرص على أن تحكم بشرع الله وبالشورى»، تلك الرسالة من الجولاني كانت محط التساؤل من وسائل الإعلام، كون النصرة تصرح بعدم استئثار الحكم، وأنها لا تريد الحكم بشكل منفرد، هل نحن أمام خطاب جديد في أدبيات النصرة يقضي على التكهنات عما إذا كانت «جبهة النصرة» ستنشئ كياناً أو إمارة لها، على غرار تنظيم داعش؟

&

هذا الإعلان أو الموقف لا جديد يذكر فيه على صعيد أدبيات النصرة، فمن الناحية النظرية، فإن الجولاني قد عمد دوماً في بياناته وتسجيلاته المعدة للنشر إلى إرسال رسائل التطمين وانتهاج سياسة التمويه والمداراة مع بقية الفصائل، بعدم فرض رؤية الجبهة حول مستقبل سورية واعتماد منهج الشورى في تدبير الخلافات وإدارة المناطق المحررة، وعدم الانفراد في تحديد شكل الحكم، وهو ما يخالف نهج النصرة العملي، التي عملت على إقصاء الفصائل الأخرى، ولاسيما التي تعرف بالاعتدال، والانسحاب من الهيئات الشرعية المشكلة من الفصائل التي سدت جزءاً من الفراغ الإداري والقضائي، والاتجاه نحو إنشاء محاكم ودور شرعيّة خاصة تنفرد بها من دون بقية الفصائل، ولكن الظروف والأوضاع الراهنة في إدلب تختلف عن تجارب وظروف قد سبقت من قبلُ، فـ«النصرة» ليست هي الفصيل الوحيد في الساحة الإدلبية، الذي يملك القوة العسكرية، فهناك حركة أحرار الشام الفصيل الأبرز والأقوى عسكرياً، التي وإن كانت تتفق مع الجبهة بشكل عام في مرجعيتها السلفية الجهادية، ولكنها تنتقد علناً ارتباطها بالقاعدة، قد استبقت قبل أيام من معركة إدلب بخطوة هي اندماج كامل لألوية صقور الشام معها، إذ أصبح مسماها حركة أحرار الشام الإسلامية، وهي خطوة رأى فيها الكثيرون محاولة إيجاد توازن وتوسيع نفوذ جماعة أحرار الشام في محافظة إدلب بشمال غرب سورية، في مقابل ما تمتلكه «النصرة» من نفوذ في معظم ريف إدلب؛ نتيجة سحقها لأهم حركتين معتدلتين مدعومتين من الغرب هناك، هما جبهة ثوار سورية وحركة حزم أخيراً.

&

صحيح أن الجولاني قال: (إن النصرة لن تستفرد بالحكم من دون البقية)، ولكن التصور الذي يطرحه في إدارة المدينة هو حكم عسكري يديره ائتلاف من الفصائل المقاتلة، مع محكمة شرعية تفصل في النزاعات بين الناس وفق الشريعة، وتخضع الإدارات المدنية، لرقابة الهيئة العسكرية الحاكمة، إذ لا يكون هناك حكم مدني في إدلب، ولا مكان فيها للحكومة الموقتة التابعة للمعارضة، ولا مكان فيها للمعارضين المدنيين، ولا وجود للحكم والتسيير الذاتي من أهالي المناطق المحررة، وهذا النموذج هو قريب مما هو قائم في بعض المناطق المحررة، إذ تنسق الهيئات الشرعية مع قيادة الفصائل على تسيير الأمور الحياتية واليومية، وإذا كانت معظم الفصائل الموجودة في إدلب وباعتبار مرجعيتها الإسلامية تتفق على تحديد المرجعية بين الشريعة والشورى كعناوين تحكم العمل المسلح والإداري في المناطق المحررة عبر دور القضاء والمحاكم الشرعية، وليست هي على خلاف في ذلك، والجولاني قد طمأن الفصائل المشاركة بأن «النصرة» لن تستأثر بحكم المدينة بصورة منفردة.

&

فأين يكمن مأزق القلق أو المشكلة؟ المشكلة في الوضع الراهن في مدينة إدلب يكمن في ما يتعلق كونها ستحكم بشريعة ورؤية جيش الفتح والأحرار، أو أنها ستحكم بشريعة ورؤية «النصرة» وحليفها جند الأقصى، فالنصرة قد تجنح إلى تأسيس كيان خاص بها على المستقبل البعيد، عبر أسلوب مختلف عن إعلان قيام الإمارة الإسلامية، وهو عدم القبول بتعدد وتنوع المرجعيات في الهيئات ودور القضاء واقتصاره على مرجعية ورؤية، وأن على الجميع الاتفاق والخضوع لرؤية النصرة، فالجولاني قد قال في حواره الصوتي الأخير الذي أجرته مؤسسة المنارة البيضاء الذراع الإعلامي لجبهة النصرة قبل ثلاثة أشهر إن انسحاب الجبهة من الهيئات الشرعية وإنشاءها دُور القضاء في المناطق المحررة، كانا بسبب وجود مجموعات من نقابات لمحامين يسعون لتطبيق أحكام القوانين الوضعية، فكان لزاماً منعهم من ذلك، وفي المقابل يجب على كل من يشترك في دُور القضاء أن يتفق مع الجبهة على أهدافها ووسائلها التي تنتهجها، وهذه الإشكالية تسببت أخيرًا بخلافات وصلت حد الاغتيالات والمواجهة المسلحة، ولـ«جبهة النصرة» تجارب معروفة في تدمير غيرها من الفصائل عندما تتعارض مع مشاريعها ورؤيتها، وإن كانت بقية الفصائل المندرجة في «جيش الفتح» ليست هدفاً سهل المنال كسابقتها، وإذا كانت إدلب هي الانتصار الأهم لجبهة النصرة الذي قد يمنحها حظوظ البقاء والتأثير بعد أن فقدت وهجها، إلا أنه نصر محفوف بتحديات كبرى.
&