جميل مطر
&
نعيش أياماً سوف تملأ بتفاصيلها صفحات عدة في سجل تاريخ المنطقة، وبخاصة في الفصل الخاص بإعادة بناء الشرق الأوسط . أتصور، بين ما أتصور، صورة رجلين من قادة العصر خطر على بال كل منهما كتابة كلمات في رسالة الوداع عندما يحين موعد رحيلهما عن قمة السلطة أو عن الحياة الدنيا . الرجلان هما أوباما والإمام خامنئي، كلاهما سوف يختار من الكلمات ما يعبرّان بها عن اعتقادهما الراسخ بأن المفاوضات التي أداراها في ظل ظروف معقدة وباستخدام أساليب عدة للضغط المتبادل، كانت إنجازاً لا يقبل التشكيك في مسيرتي حكم تعددت إخفاقاتهما.
&
تابعنا سير المفاوضات باهتمام لأنها ببساطة شديدة كانت تتعلق بمستقبلنا، مستقبلنا كعرب تصادف وجودهم في أوقات تحوّل جوهري في منطقة الشرق الأوسط . لم أشك للحظة واحدة على امتداد المفاوضات في أن الصين لن تغيب عن المفاوضات مهما طالت وتعقدت، لأنها أرادت منذ اللحظة الأولى أن تكون طرفاً رئيسياً في صنع مستقبل الإقليم، الأمر نفسه ينطبق على روسيا، التي ساهمت بقدر كبير وبصبر وتعاونت بصدق رغم توتر علاقاتها بدول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة . عرفت موسكو وبكين، منذ البداية، أنه سوف ينتج عن هذه المفاوضات، في حالة الفشل أو النجاح، ما يؤثر جذرياً في توازن القوى الإقليمية، وبالتالي يؤثر في طبيعة العلاقات والمصالح المشتركة بين الصين وروسيا من ناحية ودول الشرق الأوسط من ناحية أخرى.
&
عرفت العاصمتان، وعواصم أوروبا الغربية والولايات المتحدة، أن عودة إيران ظافرة أو إقصاءها كلاهما يعني نشأة نظام إقليمي جديد . "إسرائيل" كانت تعرف وملأت الدنيا صراخاً وتهورت حكومتها إلى حد تعريض علاقتها بأميركا لخطر جسيم . عواصم العرب وحدها هي التي تصرفت كالمعتاد في تاريخ صراعها مع "إسرائيل"، أنكرت وتجاهلت أو نددت واختلفت فيما بينها وانقسمت على نفسها.
&
كان الرأي الراجح، كما كتب أحد الخبراء الأميركيين، هو أن نجاح المفاوضات سيكون إحدى اللبنات الأخيرة في نظام جديد لتوازن القوى في الشرق الأوسط . لقد حرصت الولايات المتحدة على مدى نحو أربعين عاماً، هي عمر الثورة الإسلامية في إيران، على التدخل في كل مرة كاد التوازن الإقليمي يختل خللاً كبيرًا . شجعت عراق صدام حسين على كبح جماح الثورة الإسلامية بشن حرب شرسة، وهي الحرب التي أسفرت وأكدت ودعمت اتجاهات التغيير في توازن النظام الإقليمي العربي . إذ تصادف أن مفاوضات أخرى كانت تجري بين مصر و"إسرائيل"، أدارتها الولايات المتحدة بحزم وقوة، انتهت بتراجع مكانة مصر وانحسار قوتها العسكرية.
&
نماذج كثيرة في المساعي الأميركية للتدخل في نظام توازن القوى العربي والإقليمي في تلك الفترة تكاد تكون موجودة بأشكال أخرى في حلقات التدخل الأميركي الراهن . أخطأت "إسرائيل"، وبعض العرب، حين قصروا اهتمامهم بالمفاوضات مع إيران على جانب التسلح النووي . لم تخصص واشنطن كل هذه الأرصدة السياسية والاقتصادية الهائلة من أجل التوصل إلى وعود بعدم إنتاج قنبلة نووية يعلم الجميع أن لا أحد في إيران أو خارجها يستطيع الالتزام لسنوات طويلة بتنفيذ مثل هذه الوعود . إنما استثمرت الولايات المتحدة، والأطراف الأخرى ومنها إيران، هذا الوقت الطويل والجهد المضني والضغوط الدولية المرهقة من أجل افساح المجال والمكان لإيران في نظام جديد لتوازن القوة في الشرق الأوسط، نظام، تعتقد أميركا أنه سيكون، أكفأ وأوفر قدرة على ضمان سلوك إيراني ملتزم ومنضبط في شبكة من النفوذ والضغوط الإقليمية والدولية المتبادلة.
&
آمال القوى الكبرى معقودة على أن إيران كقوة مسؤولة في الشرق الأوسط ستكون عامل استقرار وليس عامل تخريب وإثارة قلاقل ونشر التمرد ضد بقية دول الإقليم . تعتمد في هذه الآمال على تصورات براغماتية محضة، لا يدخل فيها العنصر الأيديولوجي أو المذهبي . يعتمدون مثلاً على حقيقة أن أكثر الدول المشاركة في المفاوضات جاهزة بالاستثمارات والمشاريع للاستفادة من مخزون الثروة التكنولوجية والعلمية التي طورها النظام الإيراني لخدمة مشروعه النووي . يعتقدون أن الإيرانيين لن يهملوا هذا الغيث الموعود من دول الاتحاد الأوروبي وروسيا والصين، بل ومن أميركا ذاتها، من أجل الاستمتاع بمغامرات أو منافع إقليمية مكلفة . يعتمدون أيضاً على أن الواقعية الإيرانية التي لمسوها خلال سنوات التفاوض مع الحكومة الإيرانية على كل مستوياتها، وهي الواقعية التي حققت للوفد الإيراني ولإيران عموماً هذه القفزة في الساحة الدولية، ستكون الأساس لعلاقات جديدة مع دول الخليج، والجوار عموماً . سمعت من الغربيين من يقول إن أميركا لن تنسحب من أفغانستان انسحاباً كاملاً وحقيقياً إلا إذا اطمأنت إلى دور إيجابي تلعبه إيران في الساحة الأفغانية لمصلحة الاستقرار والسلم، ولمصلحة بناء توازن جديد للقوة بين الهند وباكستان وإيران والصين على الأرض الأفغانية . يقول أيضاً، إن هذا الدور الإيراني الذي يتوقعه الغرب يمكن أن يعود على إيران بفوائد ومصالح ومواقع نفوذ في الصين وشرق آسيا تغنيها عن انتصارات مذهبية وأيديولوجية باهظة التكلفة في محيط دول الجوار العربي.
&
نقل أحد الأصدقاء المنشقين عن النظام الحاكم في إيران عن مسؤولين غربيين القول إنهم واثقون من أن الاتفاق الذي توصلوا إليه مع إيران ستكون له أصداء ايجابية داخل إيران، وبخاصة على صعيد زيادة شعبية التيارات المعتدلة والمدنية والإصلاحية في إيران . أثق إلى حد كبير بصدقية كثير من المنشقين الإيرانيين الذين يؤكدون أن الشعب الإيراني مثله مثل الشعب الأميركي، كلاهما صار معادياً أو كارهاً أشد الكره للحرب والمغامرات الخارجية . إن أي جهد يمارسه المتطرفون والمتشددون في أجهزة القيادة الإيرانية للزج بإيران، بعد توقيع الاتفاق، في مشكلات خارجية قد يعود عليهم بالضرر الشديد سواء من جهة الضغط الداخلي المتصاعد، أو من وجهة عزوف المستثمرين وبخاصة الصينيون، عن الدخول في مشروعات كبرى بإيران، أو بالاشتراك مع إيران في مشروعات تنفذ في إفريقيا.
&
من ناحيتي أكاد أكون مقتنعاً بأن في إيران حكماء ليسوا أقل حكمة من أقرانهم الأتراك الذين تصدوا في وقت مبكر بالنصح لترشيد طموحات وأحلام الرئيس إردوغان في العالم العربي . يذكر الكثير منا كيف كانت تركيا، قبل اعوام قليلة جداً، تحلم بأن يكون لها دور ونشاط وأصدقاء وحلفاء في كل ركن من أركان العالم العربي . رأينا بعد ذلك كيف نجح العقلاء في الأجهزة المتخصصة في الشؤون الخارجية في إخراج تركيا بسرعة من" المستنقع" العربي، التعبير المفضل لدى قطاعات مهمة في النخبة السياسية التركية لوصف أوضاعنا العربية . أغلب الظن أن جماعات المتشددين في إيران لن تجد دعماً شعبياً إذا استمرت، بعد توقيع الاتفاق، في تصعيد خلافاتها مع قادة الدول العربية، أو تدخلت بالتخريب والأذى في شؤون هذه الدول.
&
مرة أخرى، اشترك مع آخرين في الدعوة إلى أن نعي جيداً درس الأيام الماضية، ومعه دروس العقود العديدة الماضية . ها هي إيران تستعيد مكانتها، أو لعلها صارت مرشحة لتحتل مكانة جديدة ومتميزة في النظام الدولي، كدولة "قومية" . العالم بأسره يعترف لها الآن بهذه الصفة، وليس بصفتها دولة دينية أو مذهبية . مصيرنا جميعا كأقوام في الإقليم أن نعترف لإيران ولدولنا بهذه الصفة، مصيرنا، أن نعترف لأنفسنا بصفة مماثلة لنقف على الأقل متساوين أمام العالم مع تركيا وإيران وللأسف مع "إسرائيل"، وجميعها كما نعلم، ونحاول الإنكار، تسعى الآن لبناء نظام إقليمي جديدة يعتمد "القوميات" أساساً وعقيدة سياسية له.