عمار علي حسن

لو قام الأزهر بتكفير «داعش» لكان قد وقع في خطأ إذ من العبث مواجهة العيب بعيب مثله، لأن مثل هذا التصرف ينطوي على «مغالطة منطقية» جسيمة، ويعني التسليم بما رآه الخصم، والامتثال لطريقته في التفكير والتعبير والتدبير، أي الانقياد له، والسير خلفه، والانزلاق إلى المنحدر معه نحو هاوية سحيقة لا رجوع عنها، ولا شفاء منها.

فالأزهر، على رغم تغلغل بعض «الإخوان» والمتسلفة في صفوفه على حين غرة، لا يزال يحتفظ بسمته وصورته كمؤسسة وسطية، ويعتبر أن مثل هذا التغلغل أمر طارئ وعرض عابر تم تحت ظرف سياسي واجتماعي قاهر، ولابد من معالجته، وإن طال الزمن. هذا إدراك الأزهر لذاته، وتصور عموم المصريين، بل المسلمين، عنه في مشارق الأرض ومغاربها. وهذا السمت يفرض على الأزهر، ألا يجنح بعيداً في نظرته وتقييمه للمختلفين معه، أو حتى من يهاجمونه بضراوة وينعتونه هو ذاته بالخروج على «صحيح الدين»، الذي تتصوره كل فرقة على هواها وتزعم أنها عليه، لا تحيد عنه.

&


وحتى لو خرج أزهري، من أولئك المتسللين أو المتغلغلين وكفَّر الناس أو فسَّقهم وجهَّلهم، سرعان ما ينبري أزهري آخر، ليفند ما قال، ويرد عليه الصاع صاعين، لينتهي الأمر إلى انتصار لمسلك نأى بنفسه عن تكفير الناس وتبديعهم وتفسيقهم، حتى لو كان انتصاراً في معركة صغيرة معزولة.

وفي ظل هذا التصور لم ينزلق الأزهر إلى مستوى «داعش» حين يتبنى خطاباً مضادا لها، على رغم أن كثيرين تمنوا عن تسرع، وربما حثوا وحضوا الأزهر على أن يكفر «الدواعش»، أو يصنفهم بأنهم خارجون عن الدين، أو ليسوا من الإسلام في شيء.

وعلى رغم أن موقف الأزهر هذا لاقى استغراباً من قبل كثيرين يتابعون كل الموبقات والمحرمات التي تفعلها «داعش»، التي لا علاقة لها بما يحض عليه دين أو خلق أو أدنى قدر من الإنسانية، فإن هناك من فهم ما وراء صمت الأزهر عن اتخاذ هذا الرأي، وقدر له أنه لم يقدم على هذه الخطوة، وأنا من هؤلاء.

فـ«داعش» تعتبر التكفير مبرراً لأفعالها الشيطانية، وتطلقه هكذا بلا تدقيق ولا توقف ولا تبيّـن غير معنية بشرع ولا ضمير، وتوظفه كأداة لحشد أنصار وتعبئتهم وراء أعمال العنف الدموية، مثلما سبق أن استعمل بعض السلاطين في تاريخ المسلمين في عهد الأمويين والعباسيين والعثمانيين «جهاد الطلب» لتبرير التوسع الإمبراطوري، و«داعش» نفسها تستعمل هذا الصنف من «الجهاد»، لتبرير الهجوم على الآخرين، جهاراً نهاراً، أو غدراً وغيلة.

ابتداء ليس الأزهر في حاجة إلى إطلاق التكفير، لأنه مؤسسة لا تسعى إلى تحصيل السلطة السياسية وبالتالي توظف هذا المسار المروع في خدمة مصالحها، كما أنه مؤسسة تعرف جيداً المآسي التي تترتب على تكفير المسلمين أو غيرهم، وأن الحكم على نوايا الناس، بالكفر أو الإيمان، ليس متروكاً لأي إنسان، حتى لو كان عالم دين، إذ إن معرفة ما في النوايا والطوايا ليس بُمكنة أحد سوى الواحد الأحد، جل شأنه.

ولو انجرَّ الأزهر إلى تكفير «الدواعش» يكون قد نزل على منطقهم، وسينفتح الباب بعدها على مصراعيه أمام تكفير وتكفير متبادل لا ينتهي، وستدخل إليه هذه المرة مؤسسات دينية رسمية وأهلية، وسيقول الجميع: ما المشكلة في أن نفكر، فالأزهر كفَّر هذه الجهة أو هذا التنظيم أو ذلك الشخص، وهكذا، وبالتالي يسود نهج «داعش» في عموم الناس، وتلك هي الطامة الكبرى.

لكن السؤال: إن لم يقم الأزهر بتكفير «داعش»، وهذا صواب، فهل من الخطأ أن يكتفي بهذا أم عليه واجب آخر حيال التعامل مع «داعش» وأخواتها؟ والإجابة بالقطع: نعم على الأزهر واجب، إن لم يقم به على الوجه الأكمل يكون قد فرط في دوره بالدفاع عن جوهر الدين، الذي تخالفه بافتضاح تصرفات «الدواعش»، وفرط في دوره الوطني بالتصدي فكرياً وعلمياً لتنظيمات تسعى لتفكيك الدول وتدمير المجتمعات والحضارات. وضمن سعيها تحاول إزاحة المؤسسات والهيئة الراسخة التي أنيط بها إنتاج الخطاب الديني وتقديم الفتوى والإجابة على أسئلة عموم الناس حول مسائل حياتية تتماسّ مع رؤى الدين وتصوراته وأحكامه.

ومن ضمن هذه المهام التصدي لنزعة التكفير تلك التي تفشت في صفوف التنظيمات المتطرفة، والتي تستند إلى كتب قديمة وآراء قيلت في زمن غابر وفي ظروف معينة، وتحيل زوراً وبهتاناً إلى آيات من القرآن، وأحاديت منسوبة للرسول الكريم عليه الصلاة والسلام، عبر تأويل فاسد، وتفاسير مختلطة ومختلقة، وأسانيد باهتة، ويمتلك الأزهر بدوره رداً على كل هذا، وقد يكون هذا المأمول من المرصد الذي أطلقه مؤخراً للتصدي للأفكار التي ينشرها الإرهابيون والتكفيريون.
&