محمد المزيني

قد لا نجافي عين الصواب، متى قلنا إن الدراما هي الذاكرة الحقيقية لأي مجتمع، لما تستوعبه من صورة واقعية للأماكن وما تتضمنه من معالجة فنية متقنة لقضايا اجتماعية حقيقية، سواءً اختلفنا عليها أم اتفقنا، فهذا سر نجاحها، ولما تحتفظ به لنا من حياة تشتمل على قيم وعادات وتقاليد طبيعية.

&

والأعمال الدرامية التي تحظى بهذا التتويج والاحتفاء في الخليج العربي تكاد تعد على أصابع اليد الواحدة، منها «طاش ما طاش وسيلفي»، اللذان يعدان استثناءً من بين مئات المسلسلات المشحونة بالضجيج بلا أدنى هدف أو غاية، عدا التشويه المتعمد للصورة الحقيقية لمجتمعاتنا، حتى بتنا لا نرى أنفسنا داخلها إلا بشكل مزر وسامج وأحياناً مضحك، مسرحها قصور منيفة وأدواتها سيارات فارهة وأبطالها فتيات حسان لعبت في ملامحهن عمليات التجميل، يتسابق أبطالها المنتجون لها إلى حشد عدد كبير منهن فقط، من أجل استشعار الفحولة المفقودة، بغض النظر عن قيمة العمل الدرامي الفكرية والفنية.

&

من بين أهم المسلسلات الرائدة ذات العلامة الفارقة في تاريخ الدراما الخليجية مسلسل «طاش ما طاش»، الذي أكاد أجزم أنه عاد اليوم بذات الروح وربما أقوى، تحت مسمى جديد «سيلفي»، فأعاد إلينا معه الأمل بأن ثمة روحاً قد بثت من جديد في جسد الدراما السعودية، بعدما خلنا أنها ماتت ودفنت مع آخر حلقة من حلقات «طاش ما طاش».

&

«سيلفي» قال لنا من بين رسائله الكثيرة والعميقة، إن الدراما السعودية الكوميدية الجادة لا تزال بخير، وإن الثنائي (السدحان والقصبي) لم يعودا ضرورة حتمية لعودة ذائقتنا إلى الفن الحقيقي، ومع أني لم أكن أنوي هنا كتابة نشرة فنية نقدية عن المسلسلين، إلا أنه من الضرورة بمكان الإشارة إلى انتصار الفنان ناصر القصبي مع عدد من كتاب الدراما المجيدين على كل الظروف والأقاويل المحبطة، بعدما انفصمت عرى العلاقات القديمة التي جمعته بالفنان السدحان، ليتمكنوا من إنتاج أهم مسلسل خليجي حاز على إعجاب الجماهير العربية العريضة، وعرف بالجانب الفني السعودي الحقيقي، ولفت إليه ثلة من الدارسين الذين تناولوا العمل كحدث مؤثر في المجتمع السعودي ومثير في الوقت نفسه للمسكوت عنه.

&

عاد القصبي إلينا في حلقته الأولى من «سيلفي» يحمل ذات الملفات الساخنة في قالبه الكوميدي المعهود، ليثير صخباً على مقاس ما كانت تثيره حلقات «طاش ما طاش»، وكأننا نعود إلى الوراء 23 عاماً، أي بعمر إنسان ناضج قطعناه وتملص من بين أيدينا منذ الحلقة الأولى من مسلسل «طاش ما طاش»، وحتى حلقات مسلسل «سيلفي». السؤال الكبير والملح هنا ونحن نشاهد المعايشة المباشرة أحداثاً إرهابية متكررة تتحمل تبعاتها الجماعات الإسلامية الراديكالية، ماذا حدث؟ وهل تغير شيء في نسق المجتمع السعودي وفكره وسلوكه مع تغير نمط البنيان وموديلات السيارات؟

&

الحلقة الأولى من «سيلفي» أثارت ضجيجاً وصخباً مستنكراً أعادنا إلى حلقات «طاش ما طاش» أيام الحراك الصحوي ومنابره، التي ناصبت المسلسل وفريقه العداء، وصدرت الفتاوى التكفيرية ضدهم، وحقنت طلاب المدارس بالكراهية البغضاء لبطلي المسلسل، اليوم يحدث الشيء ذاته، ولربما أقوى وأعنف مع توافر شبكات التواصل الاجتماعي، التي خصصت وسماً خاصاً بـ«سيلفي»، فمن مرور خاطف لشخصية متدين في حلقته الأولى ثارت عاصفة هوجاء لا تقف عند حدود التفسيق، بل التكفير والتهديد بالقتل، هؤلاء الذين ثارت ثائرتهم من الحلقة الأولى ليسوا داعشيين أو هكذا يصفون أنفسهم، أما الذين تحركت سهامهم بعد الحلقة الثانية «بيضة الشيطان» فهم داعشيون حقيقيون، في حين أن النبرة الداعشية في كلا الخطابين - الأول والثاني - واضحة، لا يختلفان إلا بالحركة والانتماء، فقاعدة الفكرة ومسلماتها التكفيرية منذ حلقات طاش لم تتغير، بما يشي أن بنية المجتمع السعودي الفكرية باتجاهاته الدينية راسخة، متمكنة من القلوب والعقول معاً، وهذا - لعمري - أساس البناء الإرهابي الذي شيدناه ردحاً من الزمن بأيدينا، وأخرج ثلة من الشباب حاملي لوثة التطرف، فكانوا الأقرب إلى الاستقطاب الداعشي، فهم تعلموا تعاليمنا المشحونة بالاستعداء للآخر - طبعاً هي ليست تعاليم ديننا السمحة -، بل أمشاج مكون لا هوية واضحة له، ممزوج بأقصى حدود الأشياء المتطرفة، من عادات وتقاليد وعقائد وتشريعات، ألبست كلها في المحصلة النهائية لهذا المكون عباءة الدين، حتى أصبح ممثلاً في رجل، يقيمه ويقعده على هواه لمجرد أنه يحمل تقاسيم وملامح الصورة المتخيلة للتدين والرجل المتدين، لذلك فإن أدنى اجتراء عليه هو بالضرورة اجتراء على الدين وعلى الذات العليا لله، أسهم في تكوين هذه الصورة النمطية للدين جماعات الصحوة الذين حاربوا الاختلاف بكل أشكاله ومدارسه وانتماءاته، واقتحموا بهذا الفكر الإقصائي المنازل المطمئنة، التي لم تكن تفرق بين مطوع و«داشر»، فباركتها على رغم أنفها عبر كل الوسائل الممكنة، وأصبح معيار القيم محكوماً بميزانهم، حتى تألب المجتمع على نفسه، وأصبح قريباً جداً من لوثة التكفير.

&

23 عاماً تفصل الحلقة الأولى من «طاش ما طاش» عن الحلقة الأولى من «سيلفي»، ونحن على رغم مساحيق التجميل المضافة على الخطاب الديني إلا أنها حتى اليوم ملتبسة من داخلها بفكرة التكفير، لم يتغير شيء، بل استشرت هذه اللوثة في خلايانا الذهنية، وهي التي دفعت بالشباب لتقبل أحكام التكفير الداعشية، المشتملة على حجج وبراهين مستلة في مجملها من كتب التراث بلا تمييز أو تمحيص، إذاً لا يجب أن ننحي باللائمة على آلة الإعلام الداعشية الفتاكة فقط، بل نحن نتحمل الجزء الأكبر من تبعات هذه التوجهات المتطرفة، فلو لم تجد هذه النبتة السامة مناخاً ملائماً وتربةً خصبةً تنمو داخلها لما استشرت وتفرعت وامتدت إلينا بالتفجير والتدمير، لم نفكر يوماً بالطرق المثلى لاجتثاث هذه النبتة الخبيثة، قدر مناحاتنا على ضحايانا من مفجرين ومفجَرين.

&

لو عدنا إلى حلقات «طاش ما طاش» و«سيلفي» تالياً، لتلمسنا مواقع الخبث في جسدنا، منها التباهي بالعنصر البشري فهناك من يقتل من أجل قبيلته، ومنها تقديس المذهب حد الإقصاء المنتهي بالتكفير والتفجير، ثم نتباكى على كل ما يحدث ظاهرياً، من دون جوهرنا الذي يبارك بصمت كل ما يحدث، بعيداً عن الاستنكار والشجب.

&

هل يجرؤ مجتمعنا على قبول تزاوج عناصر المجتمع المختلفة بعضه ببعض؟ وهل يقبل علماؤنا من سنة وشيعة بالاعتراف المذهبي العلني ببعضهم البعض؟ إجابتنا عن هذين السؤالين هي المحك الرئيس الدال على صدقنا في السعي إلى الحل. عدا ذلك فنحن متفرجون فقط، ولنتحمل تبعات ما نوقعه بأنفسنا.
&