جورج سمعان

انخراط أنقرة في عمليات التحالف الدولي ليس وحيداً في المشهد الاستراتيجي الجديد في المنطقة. دوافعه الإقليمية لا تقل أهمية عن الدوافع الداخلية. وبالتالي لا تقتصر نتائجه على الصراع بين حزب العدالة والتنمية وخصومه السياسيين. بل تتعداه إلى ما وراء الحدود الجنوبية. دخلت تركيا عملياً «مرحلة سياسية وأمنية جديدة بالكامل»، كما عبر الرئيس رجب طيب أردوغان. إنها نار الأزمة السورية التي قفزت فوق الخطوط الحمر. تجاوزت الحدود ودخلت المرحلة التركية بامتياز. تنظيم «الدولة الإسلامية» ليس مَن بدَّل قواعد اللعبة مع الدولة التي تغاضت طويلاً عن تحركاته وتنقل عناصره وتدفقهم إلى بلاد الشام. إنها «كردستان سورية»، هي الهاجس الأكبر لحكومة أحمد داود أوغلو، فبين أبرز أهداف هذه الوزارة ضرب «داعش» وتبديد طموح الكرد شمال سورية بإقامة إقليم مشابه لكردستان العراق.

سقطت شروط أردوغان التي وضعها قبل سنة للمساهمة الفعلية في عمليات التحالف الدولي. أسقطها «داعش» مثلما أسقطها «حزب الاتحاد الديموقراطي» و «قوات الحماية الشعبية» ومعهما «حزب العمال الكردستاني». لا تحتمل أنقرة نارين على حدودها الجنوبية، فيما تراجعت أسهم حزب العدالة، كما بينت الانتخابات البرلمانية الأخيرة. ولا شك في أن الرئيس أردوغان يريد تخيير الناخبين، بعد ترجيح الذهاب إلى انتخابات مبكرة، بين الفوضى أو الاستقرار. وهذا لا يستقيم فيما الحريق يلتهم الحدود الجنوبية ويتجاوزها. قبل ذلك جربت أنقرة الدفع بحلفائها للذهاب أبعد من إدلب التي انتزعتها الفصائل الإسلامية من قوات النظام. لكن واشنطن حالت دون ذلك. منعت كل الأطراف المعنية في الشمال والجنوب من الخروج على «قواعد ضبط الحرب». لم تسمح بالتقدم نحو حلب التي رغب حزب العدالة في انتزاعها كلياً من يد النظام لعله يعزز مواقعه الداخلية. وأوقفت توجه «الجيش الحر» نحو حماه. مثلما ضغطت لوقف اندفاع «عاصفة الجنوب» نحو دمشق أو ريفها الغربي. ثمة مخاوف من تقدم الفصائل الجهادية من حدود لبنان الشمالية، فبعض المراقبين لا يخفي هواجسه من احتمال اندفاع «داعش» أو «النصرة» شمالاً نحو عكار وغيرها، إذا قيض لهم الاستيلاء على حمص وريفها كاملاً.

واكب المرحلة السابقة عشية الاتفاق النووي تراجع دراماتيكي لقوات النظام، وتقدم سريع لفصائل المعارضة بمختلف ميولها. لذلك حرّك اللاعبون الدوليون المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا. كانوا يخشون ولا يزالون أن يتواصل اندفاع المعارضين على نحو يهدد سورية بالتقسيم والتفتيت وسقوط مناطق واسعة بأيدي «داعش» و «النصرة».

والحرب الدائرة اليوم في الزبداني والجنوب والشمال قد لا تغير كثيراً في المعادلات على الأرض بقدر ما تساهم في إطلاق الحراك السياسي. ولا شك في أن انعطافة تركيا وانخراطها في حرب التحالف على «الدولة الإسلامية» سيعززان دورها في هذا الحراك السياسي. لقد ارتاحت بعد الاتفاق التاريخي بين إيران والغرب. لم يعد هاجسها قنبلة نووية بيد جارتها الجمهورية الإسلامية. ستندفع نحو مزيد من الروابط التجارية والنفطية والغازية مع الجمهورية.

الأزمة السورية لم تبدل موقف تركيا فحسب، إيران هي الأخرى ستكون قريباً أمام استحقاق مماثل. تخوض صراعاً داخلياً بين مختلف أجنحتها السياسية والعسكرية في ضوء تداعيات الاتفاق النووي والتزاماتها، وسعي الشريحة الكبرى من مجتمعها إلى استكمال العودة الطبيعية إلى المجتمع الدولي والإفادة من العائدات المالية والاقتصادية للاتفاق في مشاريع إعادة البناء الداخلي بدل إهدارها في حروب خارجية لم تعد لها طاقة على إدارتها وتمويلها. لا يمكنها تجاهل ما يلحق بحلفائها في اليمن من هزائم وتراجع. وثمة حدود لقدرتها على مواصلة الحرب التي تخوضها في بلاد الشام. صحيح أنها لا يمكن ولا يعقل أن تتخلى عن ورقتها السورية، إذا كانت مرتاحة إلى وضع العراق. لكن الصحيح أو المنطق الذي أملى عليها تقديم تنازلات في برنامجها النووي سيملي عليها مبدئياً تغييراً في موقفها من الحرب في سورية.

التشدد الذي تبديه في الأزمة السورية لا يخفي في جانب آخر أنها تعاني من تحلل معظم المؤسسات في هذا البلد، خصوصاً الإنهاك الذي يضرب القوات النظامية التي لا تزال تقاتل في أكثر من خمسين موقعاً من دون قيادة عمليات أو أركان. حتى بلغ الأمر حد تجنيد «حزب الله» الذي استنفد قدرته على حشد عناصر لبنانية، مقاتلين سوريين يتولى تدريبهم وتمويلهم. وهي تدرك أن المعاندة في قبول تسوية سياسية عندما يحين أوانها بين الكبار قد تدفع هؤلاء إلى تغيير قواعد الحرب بما يلحق مزيداً من الهزائم بالنظام وأعوانه الداخليين والخارجيين. يكفي أن يعيدوا النظر مع تركيا وشركائها في قضية تسليح بعض فصائل المعارضة. ولا يغيب عن بال طهران ما لا يغيب عن بال موسكو وهو أن سورية ستحتاج إلى بلايين الدولارات لإعادة إعمارها. وهو ما لا طاقة لهما على تحمله لا اليوم ولا في المستقبل القريب والبعيد. لذا لا مفر من الانفتاح عاجلاً أو آجلاً على القوى القادرة على التمويل، أي الغرب ودول الخليج العربي. وهذا دافع من دوافع توجه روسيا إلى بناء علاقات مع المملكة العربية السعودية ودول مجلس التعاون الأخرى.

ولا يختلف موقف عدد واسع من الدول العربية التي كان بعضها لا يزال يصر على وجوب الحسم العسكري لإسقاط النظام. أمامها استحقاقات كبرى. يكفي انشغالها بحرب اليمن التي لا بد عاجلاً أو آجلاً أن ترسو على تسوية سياسية تعطي للحوثيين وطائفتهم حصتهم في السلطة. في حين قد يخرج فريق الرئيس السابق علي عبد الله صالح بخفي حنين من كل هذه المغامرة. إلى قضية اليمن هناك التهديد الذي تمثله «الدولة الإسلامية». التفجيرات التي نفذها إرهابيوها في السعودية والكويت ودول عربية أخرى حتى الشمال الأفريقي، واعتقال عدد كبير من مجنديها في المملكة، تكشف نية «داعش» وحجم أهدافه التخريبية في كل المنطقة. وإذا كانت هذه الدول تلتقي مع الولايات المتحدة في رفضها بقاء الرئيس بشار الأسد، فلا بد لها أن تتقدم خطوات نحو البحث عن تسوية تنتهي آجلاً في تغيير النظام، وتحفظ لكل المكونات حقها وحصتها في السلطة، على غرار «المحاصصة» في لبنان والعراق.

وهذا بالضبط ما دفع المعارضة السورية، «الائتلاف الوطني السوري» و «هيئة التنسيق الوطني للتغيير الديموقراطي»، إلى التوافق في بروكسيل أخيراً على «وثيقة سياسية» استعداداً للتفاوض على «الهيئة الانتقالية» التي نص عليها بيان جنيف الأول. وهي خطوة تلتقي مع شعار روسيا أن الحل يكون نتاج تفاهم سوري- سوري. وتسقط من يدها اللعب على مقولة معارضة الداخل ومعارضة الخارج. أضاعت المعارضة وقتاً ثميناً قبل التفاهم على الحد الأدنى. راهنت عبثاً على شق الطائفة العلوية. ولم تفلح اتصالاتها مع بعض الوجوه الفاعلة من أهل الساحل. ولم تحسن التعامل من البداية مع الكرد والأقليات الأخرى. ولا شك في أن مخاوفها من مفاعيل الاتفاق النووي وتداعياته على المشهد الاستراتيجي في الإقليم دافع أساسي لإعادة النظر في وسائل عملها سياسياً وعسكرياً، وإعادة تموضعها وترتيب علاقاتها في الداخل والخارج. مثلما شكل صعود «داعش» وغيرها من القوى المتطرفة تهديداً لوجودها ومشاريعها المستقبلية وتأثيرها في أي تسوية. وحال دون تقديمها بديلاً معقولاً ومقبولاً لدى الخارج، ومطمئناً للأقليات التي تعاني من إرهاب التكفيريين وغيرهم.

دخلت الأزمة السورية طوراً جديداً. لم تعد الأولوية لمواجهة «الدولة الإسلامية» ثم النظر في التسوية. التدخل العسكري التركي سيعزز الحرب على «داعش»، والتوجه الأميركي نحو توفير الحماية للعناصر السورية التي أخضعتها لتدريبات خاصة، يواكبهما حراك سياسي. خطان متوازيان فلا أولوية لواحد على الآخر. روسيا لم تتوقف مساعيها وهي اقتنعت بالعودة إلى جنيف الأولى، والمبعوث الدولي استعاد نشاطه. وثمة فصائل إسلامية مقاتلة تسعى إلى تلميع صورتها لدى الغرب. وسيحاول وزير الخارجية الأميركي جون كيري استطلاع رأي نظيره الروسي سيرغي لافروف في دور إيران في الحرب على الإرهاب، إذا كانت جادة في استكمال شرعية نظامها دولياً بعد الاتفاق النووي. لا يعني ذلك أن الحل على الأبواب. هناك موقف الرئيس بشار الأسد ومعه مجموعة المستفيدين من الحرب. فهو لا يزال يعيش أوهام الحسم العسكري، فيما الغرب على موقفه الرافض أي دور له في مستقبل البلاد. مثلما هناك موقف الناشطين على الأرض من فصائل مقاتلة لا ترى في الحديث إلى النظام لقيام «المرحلة الانتقالية» سوى «خيانة عظمى»! والأهم أن الحرب على «داعش» ستطول ومعها التسوية التي تشكل عاملاً مساعداً في هذه الحرب... إلا إذا كانت القوى الإقليمية لم تستنزف كل قدراتها بعد وليس ما يدعوها إلى العجلة.