الحسين الزاوي

الفرق بين اهتمامات الرؤساء الأمريكيين في بداية عهودهم الرئاسية وانشغالاتهم في نهايتها، يفصح بشكل واضح ولا لبس فيه عن طبيعة الحسابات والرهانات السياسية لقادة البيت الأبيض بصرف النظر عن هوية الحزب المتواجد في أعلى هرم السلطة، حسابات تبرز مدى الاستخفاف الذي تتعامل من خلاله الإدارة الأمريكية مع ملفات وقضايا الدول الفقيرة التي لا تمثل أهمية كبرى بالنسبة لمصالح واشنطن الحيوية. لقد خصص الرئيس أوباما القسم الأكبر من فترتيه الرئاسيتين للملفات الدولية الكبرى التي تملك تأثيرات مباشرة بالنسبة للمصالح الجيوسياسية والجيواستراتيجية لواشنطن، أما في هذه الفترة القصيرة التي تفصلنا عن تاريخ الانتخابات الرئاسية المقبلة في مستهل شهر نوفمبر/ تشرين الثاني من السنة المقبلة، والتي تشهد ركوداً ملحوظاً في النشاط السياسي والدبلوماسي الأمريكي، فقد آثر أوباما أن يختم تعامله مع الملفات الدولية الكبرى والتي مثل الاتفاق النووي مع إيران آخر محطاتها، بفتحه لملفات من الدرجة الثانية تتعلق بحملة العلاقات العامة التي يجري تحريكها من قبل الدبلوماسية الأمريكية في الوقت بدل الضائع، من أجل خلق انطباع وهمي بوجود استمرارية جدية في مسار السياسة الخارجية الأمريكية. ويمكننا أن نلاحظ أن زيارة أوباما الأخيرة إلى إفريقيا وإلى موطن آبائه وأجداده كينيا، جاءت كمحاولة لاستثمار هذا الوقت بدل الضائع، من أجل إبراز تمسكه بجذوره الإفريقية، وتقديم شكل من أشكال الشكر والعرفان لفئات الأمريكيين السود والملونين الذين لعبوا دوراً حاسماً في وصوله إلى منصب الرئاسة، على الرغم من الأجواء العنصرية التي كانت وما زالت تسم السياسة الأمريكية بميسمها.

كان لافتاً في سياق زيارة أوباما لأرض أجداده في كينيا، تمسكه بنوع من الوصاية والسلوك الأبوي في تعامله مع مستقبليه، والأكيد أنه لم يكن أباً فاضلاً في كل الأحوال، وخاصة عندما أراد أن يضغط على مضيفه الكيني من أجل إقناعه بمزايا الاعتراف بحقوق المثليين، كما حرص في السياق نفسه على أن يقدم للأفارقة درساً في ضرورة محاربة الفساد، وتناسى أن المؤسسات والشركات الغربية وفي مقدمتها الأمريكية، هي التي تشجِّع المسؤولين الأفارقة على الفساد من أجل الحصول على مشاريع استثمارية كبيرة في هذه القارة. لقد أجمع المراقبون الدوليون أن أوباما «الإفريقي» لم يقدم للقارة السمراء أكثر ممّا قدمه سلفه جورج بوش الابن، الذي وقع اتفاقية تجارية مع دول إفريقيا جنوب الصحراء، ولم يفعل أوباما أكثر من التوقيع على تمديد صلاحيتها.&

لقد خانت الصراحة أوباما وغلبت عليه الاعتبارات العاطفية وصيغ المجاملة المشبعة بالعبارات الرنانة، عندما أكد في خطابه أمام الكينيين أنه فخور بأن يكون أول رئيس كيني للولايات المتحدة الأمريكية، وتناسى مرة أخرى أنه انتخب بوصفه يمثل الأمريكيين السود وليس الكينيين، وكان الهدف من وراء قبول ترشيحه لمنصب الرئاسة، من طرف النخبة السياسية الأمريكية، هو تمرير رسالة دعائية مؤداها أن الحلم الأمريكي مازال ممكن التحقيق، وذلك قبل أن يعيد المحافظون وزعماء حزب الشاي عقارب الساعة الأمريكية إلى نقطتها الأولى معلنين بذلك نهاية هذا الاستثناء الذي قد لا يتكرر قبل عقود من الزمن.&

تحدث أوباما في السياق نفسه، عن الحلم الإفريقي بشكل أجوف غلب عليه البعد والانزياح الكامل عن حقائق الواقع المعاش، وفي اللحظة التي كان يسعى إلى إقناع الشباب الكيني بأنه بالإمكان أن يحقق طموحاته وأحلامه المشروعة في بلده الأصلي من خلال دعم مشاريع التنمية وتطوير برامج التربية والتعليم، كان هناك الكثير من الشباب والطلبة الكينيين الذين عبّروا عن آمالهم في أن تتاح لهم فرصة الاقتراب من الأيقونة الأمريكية السوداء لتقديم طلبهم من أجل الحصول على منحة لمواصلة دراساتهم في أمريكا، وقد أرادوا من خلال التعبير عن حلمهم الحقيقي أن يوصلوا لزعيم البيت الأبيض رسالة لا لبس فيها: نريد أن نكون مثل باراك الأمريكي وليس مثل أوباما الإفريقي، لأن باراك نجح في تحقيق أحلامه في مجتمع متطور، بينما القارة التي ينتمي إليها أجداد أوباما مازالت فريسة الجهل والفقر والتهميش والحروب، ولا شك أن مشاهد التناحر بين أنصار الرئيس السابق مواي كيباكي وأنصار رايلا أودينغا الذين احتجوا على تزوير الانتخابات سنة 2007، والتي أسفرت عن مقتل أكثر من 1500 شخص بطريقة بشعة، ونزوح ما يزيد على 300 ألف شخص عن منازلهم، ما زالت حية وفاعلة في أذهان الكثير من الكينيين، مؤكدة للجميع أن الخطابات الجميلة والحالمة لا يمكنها أن تغيِّر الحقائق الموجودة على أرض الواقع.&

إن أوباما الذي فشل في معظم مشاريعه السياسية والدبلوماسية، والذي اعتبر من طرف المحللين والمراقبين السياسيين أضعف رئيس في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية، يريد أن يكون لاعبا موهوباً ومتفوقا في الوقت بدل الضائع، تماماً كما يفعل نجوم كرة القدم، لكن الفرق بينه وبين هؤلاء النجوم، وثيق الصلة بمعاني ودلالات هذا الوقت، لأنه يؤدي في كرة القدم إلى الفوز الساحق بالضربة القاضية أو بالهدف القاتل، لكنه في السياسة وتحديداً في السياسة الأمريكية الداخلية والخارجية، لا يمثل أكثر من وقت مستقطع لتدوير الزوايا والتحضير لمرحلة جديدة بقيادة رئيس جديد. ولعله من باب السخرية السياسية ومن قبيل الاستخفاف بعقول الأفارقة، أن يُبشّر رئيس ينحدر القسم الأكبر من مسؤولي دولته من أوصول أوروبية وتحديدا من أصول ايرلندية وإنجليزية، شعوب القارة السمراء أنهم سيدخلون جنة اقتصادية تتحكم الاحتكارات البيضاء في مفاتيحها وأقفالها.