عبدالله جمعة الحاج

تشير الأنباء الواردة من اليمن إلى أن قوات التحالف العربي تحقق انتصارات متصلة ستقود في نهاية المطاف إلى تحرير كامل التراب اليمني من أيادي أولئك الذين اغتصبوه بالقوّة من أبناء الشعب اليمني وحكومتهم الشرعية. وهذا النصر بات مؤكداً وإن كان يحتاج إلى كثير من العمل والصبر لترسيخه، فالمعارك التي تخاض قاسية وصعبة، لكن الأصعب هو التصدي لمشكلات ما بعد التحرير وانتهاء الحرب.لذلك، فإن تساؤلات كبرى تبرز حول المسارات التي ستشكل مستقبل اليمن القريب، فهو الآن مُثخن بالجراح، وأوصاله مجزأة، وفيه العديد من التيارات والأحزاب والمكونات التي تصارعت في السابق وتتحفز الآن للصراع على السلطة والثروة والنفوذ.. وغير ذلك من القضايا الشائكة الأخرى.

إن الأطراف السياسية الإطارية الرئيسية التي تلعب دوراً في الصراع الدائر في اليمن حالياً؛ هي الرئيس الشرعي عبدربه منصور هادي وحكومته التي شكلها في المنفى برئاسة خالد بحاح، وحزب «المؤتمر الشعبي العام» الذي يسيطر عليه الرئيس المخلوع علي عبدالله صالح وعدد من أفراد أسرته وقبيلته ومؤيديه ومناصريه، والجماعات والأحزاب والشراذم الأخرى المرتبطة به، وأهمها جماعة الحوثي (أنصار الله) كممثل للطبعة الشيعية الجديدة من المذهب الزيدي، مع إدراكنا لطبيعة الزيدية واختلافها الواضح عن الشيعة الإيرانية الاثنا عشرية، والتي يقابلها «الإخوان المسلمون» على الجانب السني، والذين يسمون أنفسهم «التجمع اليمني للإصلاح»، والذين يتقاربون حالياً في اليمن مع «القاعدة»، وربما هم في تحالف تكتيكي معها على أرض المعارك؛ علاوة على قوى الحراك الجنوبي؛ وتجمعات المقاومة الشعبية بكافة فئاتها وأحزابها وجماعاتها. ثم بعد ذلك يأتي التحالف العربي الذي تقوده المملكة العربية السعودية مسنودة بدول مجلس التعاون الخليجي ودول عربية أخرى، كداعم خارجي مؤثر للحكومة الشرعية وجماعات المقاومة الشعبية الأخرى التي تحقق الانتصارات على أرض المعارك حالياً.

&


وفي داخل كل تجمع من التجمعات الإطارية الكبرى تلك توجد مجموعات كثيرة وأحزاب وجماعات سياسية، من المتوقع أن تتصارع بضراوة على السلطة والثروة في مرحلة ما بعد تحقيق النصر واستعادة اليمن من براثن الحوثيين وأعوانهم. وهذا مؤشر خطير على دول التحالف العربي أن تنتبه إليه جيداً وتحسب له ما ينبغي من حساب حتى لا يدخل اليمن مجدداً في دوامة الصراعات الداخلية التي لن يكون من السهل حسمها وتجاوز مخاطرها سريعاً.

لكن ما نود التنبيه إليه هو خطر التيار الديني في مجمله على مستقبل اليمن السياسي والاقتصادي، فمكونات هذا التيار ليست واقع الحال على ما تبدو عليه خارجياً من تشرذم في الوقت الراهن، فهي في معظمها شديدة التنظيم ولديها خطط وبرامج جاهزة للقفز إلى السلطة والاستيلاء عليها ولو بقوة السلاح، وليس في جوهر فكرها تداول السلطة بالوسائل السلمية عن طريق صناديق الاقتراع والانتخابات والديمقراطية الحديثة عموماً.

قبل توحيد قطري اليمن عام 1990، كانت معظم الحركات السياسية تعمل في السر، ثم قامت بعد ذلك بتحويل نفسها إلى أحزاب بعد صدور قانون المنظمات والأحزاب السياسية عام 1991. وفي مجتمع تقليدي محافظ، نسبة الأمية فيه عالية، من الطبيعي أن تنتعش الأحزاب الأصولية المحافظة، حيث قام نظام الرئيس المخلوع علي عبدالله صالح بممارسة اللعب على تناقضات المجتمع وتحريك فئاته ضد بعضها بعضاً لتحقيق أهدافها السياسية، فاستخدم الأحزاب الدينية بشكل خاص في حربه ضد اليساريين والليبراليين على حد سواء. وفيما قبل الحرب الحالية كانت توجد حوالي 15 حركة إسلامية معروفة يتراوح فكرها بين التشدد الأصولي والفكر الإصلاحي، مثل «الإخوان المسلمين» و«التكفير والهجرة».

إن بعض هذه الأحزاب لديها برامج سياسية واضحة هدفها الوصول إلى السلطة، ولديها قواعد شعبية قوية وتنتشر بشكل واسع في معظم أنحاء البلاد، كـ«التجمع اليمني للإصلاح»، و«حزب الحق»، و«اتحاد القوى الشعبية»، في حين أن معظم القوى الأخرى ليس لديها برامج سياسية أو مواثيق سياسية تنظيمية أو حتى مقار رسمية، وبعضها تمثله أسر بعينها. لكن جميع هذه الحركات الإسلامية تلتقي في الفكر في نهاية المطاف، وخطرها قد يكون شديداً في مرحلة ما بعد الحرب الحالية.

لذلك، فإن التحالف العربي في اليمن يجب أن ينتبه إلى مثل هذه الخطورة من الآن، «وقبل أن تقع الفأس في الرأس»، كما يقول المثل العربي. فرغم ما تبدو عليه الحالة حالياً من تقوقع (ربما يكون مقصوداً) للحركات السياسية الإسلامية اليمنية، فإن الكثير من الأحداث والشواهد السابقة وتزايد نشاط «القاعدة» والفئات الدينية من المقاومة الشعبية والحراك الجنوبي، تعطي مؤشرات على أن الزخم الذي تحظى به تلك الحركات لا يزال قوياً.

والواقع هو أن مؤشرات التراجع يتم قياسها حالياً من خلال تناقص الزخم الإعلامي الدعائي لتلك الحركات، لكن هذا القياس لا يبدو صائباً لأن النفوذ الذي تحظى به الأحزاب والتجمعات الدينية في البلاد هو في حقيقة الأمر قوياً، خاصة بالنسبة لتأييد الشعارات التي تنادي بإقامة دولة إسلامية وكان يتم طرحها في السابق من خلال برامج الأحزاب الإسلامية السياسية، فلماذا لا يقود هذا الزخم مجدداً؟

وبالإضافة إلى ذلك، فإن بعض تلك الأحزاب يعلن عن تأييده للنظام الحاكم في إيران وتلقيه الدعم المادي والمعنوي واللوجيستي منه، ولديه صلات قوية مع أحزاب وجماعات دينية في عدد من الدول العربية. ومن خلال قراءة أوضاع وفكر هذه الأحزاب والجماعات الدينية يمكن ملاحظة النفوذ الذي تحظى به الجماعات السياسية الإسلامية بشكل عام وجماعة «أنصار الله» و«التجمع اليمني للإصلاح» بشكل خاص في الشأن اليمني الداخلي.

إن دور الجماعات الإسلامية في النظامين السياسي والاجتماعي لليمن، وتغلغلها المستقبلي فيهما، وعمليات العنف التي نفذتها وتم تمويلها من الخارج، هي أدلة واضحة على رغبة هذه الجماعات في تأسيس دولة دينية تتناقض مع الأسس والطروحات الحديثة التي تنادي بها دول التحالف العربي في اليمن ودول مجلس التعاون الخليجي لإقامة مجتمع مدني ودولة معتدلة ومسالمة في اليمن.

إنَّ المهام التي سيكون على دول التحالف العربي القيام بها في اليمن المحرر لن تكون سهلة، وأهمها صياغة شكل جديد للبلاد يتم ضمنه استيعاب كافة مكونات الشعب اليمني بمن في ذلك الحوثيين أنفسهم، خاصة أولئك الذين لم تلطخ أيديهم بدماء الشعب اليمني ولم يسيئوا إلى اليمن بشكل عام، وذلك بوضع دستور أو ميثاق جديد للبلاد يحفظ اتحادها في إطار سياسي جديد ليس فيه قسر ولا قهر ولا ضرر ولا ضرار، ويؤسس لها مؤسسات دستورية وإدارية تساعدها على النهوض والابتعاد عن سيطرة الجيش والعسكريين على خيرات البلاد ومقدراتها، ويحفظ لها أمنها واستقرارها ويبعدها عن التحالفات القبلية التي قادتها في السابق إلى الدمار وفتحت الأبواب على مصراعيها أمام الباحثين عن السلطة والثروة ونهب أموال الشعب اليمني وعن الفساد المستشري وألاعيب السياسيين التي تصب في نهاية المطاف في مصالحهم الشخصية وحدها.

وعندما نشير إلى أدوار لدول التحالف العربي في اليمن، فإننا لا نقصد بذلك أن يحدث الأمر بمعزل عن إرادة الشعب اليمني، فاليمنيون هم أصحاب القرار أولاً وأخيراً. إنَّ ما نقصده هو أن تتم مساعدة الأشقاء في اليمن على تدبر أمورهم في بداية الأمر بعيداً عن الصراعات الثقيلة التي عصفت بهم في السابق خاصة بعد قيام الوحدة.

فالأوضاع الجديدة التي سيساعد التحالف العربي في اليمن على إيجادها ستبدأ بالإعمار، خاصة ما دمرته الحرب من بنية تحتية عن طريق إعادة بناء شبكات الكهرباء كخدمة أساسية أولى يحتاجها الإنسان اليمني، ثم شبكات المياه والمرافق الصحية والمؤسسات التعليمية (المدارس)، ثم بعد ذلك إعادة تأهيل المؤسسات الأمنية التي تحفظ النظام والأمن من شرطة وأمن داخلي، ودور للتقاضي أمام قضاء نزيه، ثم بعد ذلك الانتقال إلى إصلاح أو بالأحرى بناء الاقتصاد من جذوره وهي ربما تكون أصعب عملية في إعادة البناء، لكن دول مجلس التعاون الخليجي هي التي ستتولى هذه العملية بالتأكيد، وهي قادرة على التصدي لها دون شك.

إن العملية السياسية ستكون هماً ثقيلاً، كما أشرنا، لكنها لابد وأن تبدأ عن طريق سن دستور جديد يتفق عليه جميع اليمنيين ويقوم على تحديد الشكل الذي يربط بين شطري البلاد على أسس عادلة بعيداً عن الانفصال الكلي للجنوب عن الشمال أو للشمال عن الجنوب، فالعودة إلى الوراء ليست في صالح اليمن والشعب اليمني. ولعل الدخول في اتحاد فيدرالي هو الحل المرحلي الأنجع الذي يعيد إلى اليمن الاستقرار. فالوحدة الارتجالية التي حدثت عام 1990 لم تكن قائمة على أسس صحيحة أو واضحة، لذلك أدت في نهاية المطاف إلى عدم رضى العديد من فئات الشعب اليمني في الجنوب عن الكثير من ما مارسه علي عبدالله صالح وزبانيته في حقهم. وبعد ذلك يمكن أن يعالج الدستور مشاكل القبلية والحزبية وحيازة السلاح غير المرخص وغير الضروري من قبل الجميع، ويؤسس مجالس تشريعية ونيابية على أسس عادلة تعالج مشاكل أبناء الشعب اليمني وتعاملهم على قدم المساواة. إن الدستور أو الميثاق الجديد لابد أن يتضمن الحريات الإنسانية الأساسية الواردة في ميثاق الأمم المتحدة، بما في ذلك الحريات السياسية والمساواة بين جميع المواطنين بعيداً عن التناقضات الخطيرة التي قادت الأوضاع السابقة اليمنيين إلى حافة الهاوية. إن الدستور الجديد لا يجب أن يقوم على القبلية المتشددة في الشمال، في حين أن سكان الجنوب أقل تقبلاً لها أو حتى اعتقاداً بها، وأكثر انفتاحاً على العالم وما يدور فيه من تفاعلات.

إن وضع دستور مرن للبلاد سيحد من صعوبة الأبعاد السياسية والاجتماعية والقبلية والأمنية المعقدة التي تواجهها الحكومة القادمة في اليمن، وسيساعد على إيجاد نظام سياسي يقوم على احتكار السلطة لفرد أو لجماعة أو لقبيلة بعينها، وسيسهل عملية تداول السلطة على المستويات العليا في مجتمع شديد التعقيد من حيث التركيبة الاجتماعية. ولعل الدستور الجديد سيساعد اليمن على الصعيد الإقليمي أيضاً، فقد افتقر في السابق إلى المواقف الإيجابية إزاء القضايا الهامة؛ فالحوثيون يريدون رميه في أحضان إيران، والرئيس المخلوع كان غير حكيم في مبادراته إلى تأييد غزو الكويت واستعداء السعودية ودول مجلس التعاون الخليجي الأخرى ودول جوار اليمن الإقليمي، ثم بعد ذلك طالب بالانضمام إلى مجلس التعاون الخليجي!

إن مثل تلك الممارسات أدّت إلى تواجد «القاعدة» في اليمن التي استغلت في ضرب أبناء الشعب اليمني، وسمح للتغلغل الإيراني عن طريق بناء المراكز الثقافية والتبشير بالثورة الإيرانية، والدعم اللامحدود بالسلاح والمال والإمكانات اللوجيستية للحوثيين.

لذلك فإن مستقبل اليمن يجب أن تصاغ مسائله في مرحلة ما بعد الحرب بطرق أكثر حكمة واتزاناً، بعيداً عن الألعاب السياسية والمهاترات التي تصب في مصالح أشخاص بعينهم أو قبائل بعينها أو أقاليم بحد ذاتها دون الآخرين.

لاشك أن عملية إعادة البناء والإعمار على جميع هذه الصعد، في مجتمع ودولة يحتاجان إلى كل شيء تقريباً، هي عملية صعبة، لكن الأمل بالله كبير في أن يعود اليمن إلى أهله أولاً ثم إلى سابق عهده بدعم سخي ومساندة لا محدودة من أشقائه العرب أجمعين، بعيداً عن أي دور أجنبي ذي أهداف تخريبية غامضة، خاصة الدور الإيراني.
&