عادل درويش

تكرر ظهور تعبير «العودة إلى المستقبل» Back to the future في الصحافة البريطانية في انشغالها بانتخاب حزب العمال العريق لزعيم جديد له.


كنت ذكرت في الأسبوع الماضي سر الاهتمام بزعامة حزب معارض خمسة أعوام قبل الانتخابات، لأن النظام البرلماني يقدم للناخب حكومة بديلة (حكومة الظل) ببرنامج بديل، كما أن حزب المعارضة الأكبر في الديمقراطيات البرلمانية الحقيقية (تختلف في الأنظمة الجمهورية وفي أنظمة انتخابات التمثيل النسبي أو القوائم) لا يطرح برامج بديلة فحسب، بل يقدم للبرلمان مشاريع قوانين أو تعديلات على مشاريع قوانين قدمتها الحكومة ويناقشها البرلمان. ولذا فاللون السياسي وطريقة تفكير زعيم المعارضة في النظام البرلماني تعني التأثير على حياة المواطن، وأولوياته الاقتصاد طبعًا والسياسة الضرائبية وأسعار الفائدة في البنوك ثم الخدمات وفي مقدمتها الصحة فالتعليم والمواصلات.
في النظام البرلماني هناك آلية للانضباط الحزبي كي يصوت نواب كل حزب ليس حسب أهوائهم الشخصية أو معتقداتهم الآيديولوجية بل حسب توجيهات زعامة الحزب. الآلية هي مكتب حزبي يعرف بـ whips office أو حاملي السياط، والتعبير مجازي فلا رئيس المكتب chief whip ولا مساعدوه يحملون سياطا يلهبون بها ظهور الأعضاء، وإنما يستخدمون كل وسائل الترغيب والترهيب لضمان تصويت نواب الحزب أثناء الـ division أو انقسام المجلس للتصويت على تعديل قانون أو قبول أو رفض قرار وفق السياسة الحزبية وليس وفق الأهواء الشخصية أو القناعات الذاتية. هناك حالات استثنائية يخالف فيها النائب إرشادات مكتب السياط عندما يرى أن الأغلبية من ناخبي الدائرة يريدون سياسة مخالفة لسياسة الحزب، فيغامر بطموحه الحزبي كي يصبح وزيرًا أو رئيسًا للجنة، مقابل ألا يخسر مقعده النيابي في الانتخابات القادمة، ومنها مثلا التصويت على خوض الحرب في العراق، وتقنين زواج المثليين.


ورئيس مكتب حاملي السياط مثلا هو منصب وزاري في مجلس الوزراء (أو مجلس وزراء حكومة الظل في حالة العمال في البرلمان الحالي) وبالتالي فانضباط نواب الحزب يكون في الحفاظ على مجرى التيار السياسي الذي تتبعه زعامة الحزب، ولذا فاللون السياسي أو العقائدي للزعيم الذي سيختاره الحزب المعارض هو أمر بالغ الأهمية للصحافة والرأي العام.


فلماذا إذن أكثرت الصحافة من استخدام اسم سلسلة من ثلاثة من أفلام الخيال العلمي الكوميدية ظهرت في أواخر ثمانينات القرن الماضي بعنوان العودة للمستقبل؟
فكرة الفيلم بسيطة، عالم ابتكر قوة دفع تمكنه من السفر للمستقبل أو الماضي في سيارة سبورت، وتلميذه الذي يتبعه يركب السيارة فيعود 30 عاما إلى الوراء، ليلتقي بالعالم في شبابه ويرى والديه كتلميذين فيحاول تغيير حياتهما للأفضل، والعالم يستخدم صاعقة طبيعية لإعادة تلميذه من 1955 إلى المستقبل أي 1985. الفليمان التاليان بنفس الحبكة الدرامية أحدهما في المستقبل أي 2025 والثاني في القرن الـ 19.


والتعبير المفارقي «العودة» (كلمة مضمونها الماضي) «إلى» (الاتجاه) «المستقبل»، يمثل تركيبة عبثية في مضمونها في الأفلام الثلاثة وهو الدوران في دائرة مفرغة. فالعالم وتلميذه مستمران في الانتقال ما بين 1985، إلى 1955 إلى 2025 ومنها إلى 1955 إلى 1885 ثم إلى 1985 أي أن كل رحلات السفر الزمنية تنتهي في «محلك سر» الموقع الزمني نفسه.


النموذج أريد مشاركته مع القراء: تناقض الآيديولوجيا مع الواقع اليومي للمواطن البسيط. فالمرشح الذي يسبق الجميع وتشير استطلاعات الرأي إلى تأييد أكثر من 53 في المائة من أعضاء الحزب (ليس البرلمانيون وإنما أعضاء الحزب عامة) لزعامته هو اليساري التقليدي من التيار الاشتراكي لستينات القرن الماضي جيريمي كوربين، بينما مرشحة التيار البليري (وسياسة توني بلير أدت لفوز الحزب في ثلاثة انتخابات متعاقبة وهو أمر غير مسبوق) وزميلاها (وكانا وزيرا ووزيرة في حكومتي بلير وغوردن براون) لا يستطيعون اللحاق به.


الزعيم الأسبق بلير حذر مرتين في خطابين عامين من أن اختيار كوربين لزعامة الحزب سيؤدي بالعمال إلى الانقراض كالديناصورات، زعامات العمال تتهم كوربين بأنه رجل أحلام الأمس، يقدم حلول الماضي لمستقبل لا يعرفه لأنه لا يعيش الحاضر.


ورغم أن كوربين ليس غوغائيًا أو يهلل بشعارات، فإن التيار المؤيد له هو الغوغائي الجماهيري الاشتراكي الذي يجيد تنظيم مسيرات الاحتجاج والمظاهرات، ويفتقد مهارات إقناع محاورة الناخب أو تقديم حلول عملية واقعية لمشكلاته اليومية.


المكتب التنفيذي لحزب العمال فتح باب عضوية الحزب باشتراك ثلاثة جنيهات وبضعة قروش (نحو خمسة دولارات) تمنح العضو حق التصويت لاختيار الزعيم الجديد. تدفق عشرات الآلاف للعضوية ليصل عدد من يحق لهم التصويت 455 ألفا. ورغم أن هناك اتهامات بأن أحزاب اليمين كالمحافظين وحزب استقلال المملكة المتحدة دفعت بأعضائها للعضوية والتصويت باختيار كوربين لضمان خسارة الحزب للانتخابات 2020، فإن استطلاعات الرأي والصحافة التحقيقية تشير إلى أن السواد الأعظم من الملتحقين هم من اليسار الاشتراكي المتطرف والماركسيين والراديكاليين من الاتحادات العمالية.


برنامج كوربين والتيار الذي يدعمه من الاشتراكيين الماركسيين كعمدة لندن السابق كين ليفنغستون، لا يرقى اقتصاديا يالأرقام لمستوى تلميذ يدرس معادلة حسابية في الصف السادس الابتدائي.


ما يخشاه بلير وزعامات العمال هو حتمية رفض الناخب للعمال إذا تزعمهم كوربين. الناخب البريطاني ناضج وواقعي في اختياره العملي، لا تغريه الشعارات بقدر ما يريد من الحسبة الاقتصادية كم سيبقى في جيبه لآخر الشهر بعد دفع الفواتير، وهل كانت الحكومة ستزيد الضرائب أم تخفضها، ومستوى الخدمات (الشباب من أبناء العرب البريطانيين مثلا يؤيدون كوربين لأنه معاد لإسرائيل ويتقدم مسيرات تأييد فلسطين، ونادرًا ما يتابعون برنامجه الاقتصادي).
كوربين يريد تأميم شركات توفير الطاقة، هذا سيكلف الخزانة 290 مليار دولار، والتوسع في بناء مساكن لذوي الدخل المحدود، وهذا يكلف 110 مليارات دولار أخرى. أما تأميم السكك الحديدية فيكلف خمسة أضعاف، ولا يذكر كوربين مصدر التمويل سوى وعود غامضة بفرض ضرائب على الأثرياء (الأثرياء في المجتمع واحد في المائة تمول ضرائبهم 28 في المائة من دخل الخزانة)، والناخب الواعي يدرك أن «الأثرياء» سينقصون من الاستثمار حتى لا يدفعوا مزيدًا من الضرائب وبالتالي تقل فرص العمل وترتفع البطالة فتضطر الحكومة لزيادة الضرائب أو تقليل الخدمات أو كليهما. أي رفض العمال كبديل عن الحكومة في الانتخابات القادمة.


ومراقبة سير انتخابات زعامة العمال ونتيجتها تستحق متابعة القراء والنشطاء في بلدان الانتفاضات الشعبية (المسماة تضليلا «الربيع العربي») وما يظهر أنهم لا يزالون يريدون «العودة للمستقبل» مستقلين عربة شعارات الستينات والنضال القومي هربًا من واقع الحاضر.