أسامة القحطاني

ما أصعب البناء والصبر على مشاقّه وطول مراحله، وما أسهل أن تهدم بلدا كاملا في أيام معدودة! ولذلك فإن العقول الجاهلة كثيرا ما تميل بشكل لا إرادي نحو الهدم؛ لأنه أسهل عليها من البناء

&


عندما يعيش بعض المواطنين في عوَز، ثم يرى في نفس الوقت بعض الفاسدين يعيشون على أكتاف البلد والمجتمع؛ فإنه حقا يشعر بالغبن والظلم! ولكن، ومع ذلك هل نحن في خير كما يردد كبار السن خاصة؟
عاشت بلادنا أغلب عمرها التاريخي، إن لم يكن كله، في فقر وشح مُدْقِع في الموارد الحياتية بفعل الجغرافيا والمناخ القاسيين، ولم تعرف الأمن الحقيقي والحياة المدنية، إلى درجة أن الغزاة كانوا يزهدون حتى في احتلال الجزء الغالب من البلاد بسبب الفقر والجفاف، وكان كثير من الناس يلجؤون إلى الهجرة كي يتمكنوا من العيش.


ومن الطبيعي أن تؤثر الجغرافيا في طبائع البشر وتصرفاتهم، إذ عاشت منطقتنا كثيرا من الحروب والتفرق والتشرذم! لم يكن يجمع الناس شيء، لا وطن ولا دولة، على الرغم من وحدة الدين واللغة! حتى في فترات عز تعاقب الخلافة العثمانية مثلا؛ لم تشأ أن تترك حامية عسكرية بسبب زهدهم في الصحاري المجدبة!
وعندما يحاول أن يتخيل الإنسان كيفية الوضع فيما لو -لا سمح الله- لم توجد دولة قوية؛ فإن أقرب الحالات للتصور عندها هو رجوع الحالة السابقة من التفكك والتشرذم والتقاتل القبلي والطائفي! ستكون صورة سوداء من الفقر والجوع في كثير من الأماكن الخالية من أي موارد معيشية تمكن أهلها من الحياة! كما أن الأيديولوجيات المتطرفة منتشرة في المنطقة وستفترس بلادنا بمجرد توافر ثغرة صغيرة!
حتى لو حاول الناس اللجوء إلى الحياة البدائية بالزراعة والرعي؛ فإن موارد البلد لا يمكن أن تتحمل هذه الأعداد من الناس اليوم!
نعم، الحمد لله نحن بخير والله! ولكن لا يعرف الناس الخير الذي هم فيه إلا إذا فقدوه، لا سمح الله.


ولكن أيضا لا يجوز استخدام هذه المقدمة في الدفاع عن الفاسدين أبدا، بل هذا مما قد يسهم في زيادة التذمر واللاوعي لدى الناس، وبالنظر إلى التاريخ؛ فإن أكثر من يتسبب في التفكك والضعف هم الفاسدون وانتشار الفساد والظلم، ولذلك فإن استمرار سياسة خادم الحرمين الشريفين في محاربة الفساد ودعم النزاهة من أهم الخطوات الاستراتيجية نحو استمرارية نعمة الاستقرار والرخاء التي نعيشها، ولله الحمد.


وبالإضافة إلى أن الفاسدين هم أكثر من يتسبب في الضعف والتفكك؛ فإن الجهلة والرعاع عندما تصبح لهم قوة، فهم لا يقلون خطرا عن سابقيهم أيضا؛ فالجاهل عندما يندفع نحو المجهول، فإنه كالطفل عندما يهرب من العدو ليسقط في البئر!
العالم العربي يمر اليوم بمرحلة ثورية غير مسبوقة، أصبح فيها كثير من الناس لا تستميلهم إلا الدعوات الثورية والاستخفاف بكل منجز والتحريض والاندفاع أحيانا نحو النقد الهدّام وليس البناء، ما قد يسهم في إضعاف المنجز أيضا بدلا من تنميته! كثير من ذلك الشعور الثوري قد لا يكون حرصا على البلد، بل كثيرا ما يكون شعورا أنانيا نحو حب الظهور والتميز وتكثير الأتباع والمصفقين البسطاء!
هناك تطرف في النقد، ولكن لا يجوز أن ينجرف المجتمع مع تلك الدعوات التي قد لا تدرك خطورة اللعب بالنار، والتي قد تؤدي إلى هدم كل ما بناه الأجداد في أيام معدودة!
ما أصعب البناء والصبر على مشاقّه وطول مراحله، وما أسهل أن تهدم بلدا كاملا في أيام معدودة! ولذلك فإن العقول الجاهلة كثيرا ما تميل بشكل لا إرادي نحو الهدم؛ لأنه أسهل عليها من البناء، والتي قد تكون لا تمتلك قدرات البناء أصلا!
يجب أن يدرك الناس المدركات والإنجازات التي يتمتع بها بلدنا، ووالله لا تنفع ساعة مندم، عندما نفقد كثيرا مما نتمتع به اليوم ونبكي على تلك النعمة!
يجب أن نُكرّس اهتمامنا بتربية الأجيال على منجز الأمن والاستقرار في البلد، كما يجب أن يُنمَّى الشعور الوطني الواحد، وتعزيز التماسك والوحدة الوطنية وتماسك الشعب بيد واحدة باختلاف مناطقه وتوجهاته وأطيافه، هذه ربما من أعظم منجزات الأجداد التي على أساسها نعيش ما نحن فيه اليوم، ولو فرطنا فيها يوما؛ فإن كل ما بناه الأجداد قد يذهب ويتلاشى.
يجب أن يدرك الناس أن هذا البلد بعظمته لم يكن أجدادنا يوما يصل خيالهم إلى ما نحن عليه الآن! ووالله إن أخشى ما أخشاه على بلدي هو أولئك الجهلة الذين ينفخون في النار ويسطحون المشاكل ويستخفون بالعقبات والعواقب.
وأكثر ما يدق نا

قوس الخطر أن تجد حتى ذلك الشاب اليافع الذي لم يكمل دراسته ولا يملك أدنى شعور بالمسؤولية؛ لا يفتتح حديثه إلا بإلقاء مسؤولية فشله وكسله على الآخرين! ثم عندما ترى اندفاع الجهال وعامة الناس غير المثقفين في النقد الهدّام الذي لا ينبني على فهم وإدراك أصلا!
نعم لدينا مشكلات، لدينا فقراء ومحتاجون، ولكن الحمد لله كثيرا أننا بخير مهما كان، وأسأل الله أن يديم نعمته ويزيدنا من فضله.
&