عاطف الغمري

تنفرد الولايات المتحدة، بأن لديها عشرين ألف محلل مخابراتي، يعملون بدوام كامل، لتقييم مشكلات ينطبق عليها ما يسمونه ب «نظرية الاحتمالات». بمعنى احتمال وقوع أحداث معينة في مناطق أو دول بعينها - حتى لو كان وقوعها غير مؤكد - لكن ما دامت هناك شواهد أو بوادر، حتى ولو بسيطة، على احتمال تحولها إلى واقع، فلابد من إخضاعها للبحث والدراسة والتحليل، من أجل الاستعداد لها، وتجهيز آليات التعامل معها، أو استباقها بمنع حدوثها، أو على الأقل لتحويل اتجاهها، تقليلاً من نتائجها السلبية على الولايات المتحدة.


من بين الوقائع التي أخضعت للتحليل باعتبارها ضمن الاحتمالات كانت:
احتمال خروج اليونان من منطقة اليورو، بحلول نهاية عام 2015. واحتمال حدوث انتفاضات شعبية، أو ثورات في مصر، ودول عربية أخرى، وهو التحليل الذي كلف به الرئيس أوباما في أغسطس/آب 2010، فريقاً متخصصاً في مجلس الأمن القومي، وليقدمه إليه في مذكرة سرية.. وهناك التحليل القديم الذي وضع في الثمانينات، عن احتمال قيام دولة خليجية كبيرة، بالاعتداء على دولة خليجية أصغر، وكيفية الاستعداد مبكراً لهذا الاحتمال. وهو ما وقع بالفعل من غزو صدام حسين للكويت عام 1990.


وكل هذه الدراسات التحليلية تندرج تحت مسمى التنبؤات الكبرى Super forecasts ويعتمد هذا العلم التحليلي على التفكير فيما هو محتمل، مع الاعتراف بأنه ليس يقينياً، أو مؤكداً في حينه.


وفي الفترة الأخيرة، زادت أهمية هذا التحليل السياسي، نتيجة التحولات المتسارعة في العالم، وما ظهر من أن المختصين بالسياسة الخارجية، فقدوا جانباً من قدراتهم القديمة على المعرفة اليقينية، باتجاهات الأحداث في العالم، بل وفي دقة حساباتهم بالنسبة لما قد يقدم عليه خصم أو عدو أو رد فعله تجاه أي قرار سياسي تتخذه الولايات المتحدة تجاهه. وذلك نتيجة صعود دول كانت صغيرة، وأصبح لها نفوذ وتأثير في مناطقها الإقليمية، ما يقلص من تحكم الولايات المتحدة في توجيه الأحداث في هذه المناطق. إضافة إلى صعود الصين، وتأثيره على الأوضاع في آسيا، وفي العالم. فضلاً عن فشل خطط مسبقة لدى أمريكا، لصناعة الفوضى ثم السيطرة على حركتها، وبالذات في الشرق الأوسط، وما جرى من انفلات زمام الفوضى من بين يديها.


(وفي تيار هذه العمليات التحليلية) فقد جذب اهتمام القائمين عليها، كتاب «أدوات التفكير الذكي»، الذي صدر حديثاً لمؤلفه العالم المتخصص في الدراسات النفسية، البروفيسور ريتشارد نيسبت، والذي قدم في كتابه المكون من 320 صفحة، خلاصة جهد سنوات، ونشره متضمناً العديد من التوصيات العلمية حول التفكير الموضوعي- ودور التفكير غير الواعي، في إصدار أحكام وقرارات خاطئة- ومبادئ رصد الاحتمالات المتكررة زمنياً، لمعرفة مدى اتفاق توقعات المحلل، مع ما وقع بالفعل من أحداث، وما هي الحصيلة المعرفية التي يتمتع بها المحلل ذاته.


إن المؤسسات السياسية التي تتلقى نتائج هذه التحليلات، تعتبرها مصدراً أساسياً لسلامة قرارات السياسة الخارجية، وجزءاً من منظومة صناعة السياسة الخارجية في الولايات المتحدة، والتي توضع جميعها تحت نظر الرئيس الأمريكي والمؤسسات المختصة في الدولة.


وعلى الجانب الآخر عالمياً، فإن هذه المنظومة التحليلية، تعد تنبيهاً للدول الأخرى، لأن تكون لها أدوات متفوقة، وواعية، تستوعب من خلالها كيفية صناعة السياسة الخارجية لدولة كبرى كالولايات المتحدة، وبوسائل غاية في التعقيد، وحتى لا تبقى هذه الدول مجرد متلقي لما يصدر عن الدولة الكبرى، بل أن تكون هي بدورها صانعة لتوجهات سياسية تخصها، وتعبر عنها، وتمكنها من تفادي أي عواقب سلبية، سواء كانت متعمدة، أو حتى غير مقصودة.


إن العالم اليوم لم يعد مثلما كان. والدول التي تقدر على حماية نفسها وشعبها من أي أخطار، هي التي تملك أنظمة متطورة، تستقي طاقتها من مخزون عقول تفكر وتناقش وتحلل ثم تنتج فكراً، ورؤية سياسية مكتملة وواعية، تمثل في عالم اليوم، المنتمي لعصر ثورة المعرفة، بمختلف دوله كبيرها وصغيرها، درع أمان وحائط صد، وقدرات على الإنجاز والتقدم، والأمان.