عبد المنعم سعيد

ألقى الرئيس الأميركي باراك أوباما آخر خطاباته الاتحادية، الذي يعد من ناحية تغطية لحالة الدولة الأميركية خلال العام الماضي، ومن ناحية أخرى دفاع الرئيس عن فترة رئاسته. وخطاب الاتحاد في التقاليد الأميركية، وعادة في الدول الديمقراطية يوجد تحت أسماء مختلفة، هو وثيقة تاريخية تدافع فيها السلطة السياسية عن سجلها من الإنجاز، وتطرح ما يجب تناوله في الأيام القادمة من قضايا ومعضلات مطروحة على الدولة. وفي العادة أيضًا، ما يكون هذا الخطاب وثيقة أدبية تصل حاضر الدولة بماضيها، وقوانينها المطروحة موصولة بأصولها القانونية والدستورية، وأجيالها الراهنة بالمؤسسين الأوائل للدولة.


خطاب أوباما كان هذه المرة متميزًا؛ ففضلاً عن أن الرجل يتمتع بقدرات خطابية مؤثرة بأكثر من أي رئيس أميركي آخر منذ رونالد ريغان، فإن شجن «الخطاب الأخير» جعل لحظة الخطاب أكثر تأثيرًا من كل المرات السابقة. كان على رئيس الولايات المتحدة أن يدفع عن نفسه تهمة الرئيس «الضعيف» الذي فقدت أميركا في عهده مكانتها العالمية، وهيبتها الدولية، بل وتكاد تفقد السباق مع دول العالم الأخرى: مع روسيا في السياسة الدولية، ومع الصين في الاقتصاد الدولي. ولذلك كان جوهر الخطاب الأساسي أن الولايات المتحدة أقوى من أي وقت مضى، ولكنها لا تفعل ذلك من خلال وجود جيوشها احتلالاً وغزوًا في دول أخرى، وإنما لأن العالم عندما يقع في مشكلة أو معضلة أو أزمة ما، فإنه لا يلجأ إلى بكين أو موسكو، وإنما يلجأ إلى واشنطن. فهي العاصمة التي يذهب لها العالم للوقاية من مرض «الإيبولا»، وهي التي يطلب منها تكوين التحالفات الدولية لمكافحة الإرهاب، وهي الدولة المركز في عملية مواجهة ارتفاع حرارة الأرض.


بالطبع، كان سجل أوباما على المحك، وكان أهم ما فيه هو الخروج بالولايات المتحدة، وإلى حد ما العالم، من غمار الأزمة الاقتصادية والمالية العالمية في عام 2008. وكان الخروج الأميركي متعدد الأبعاد، فيه استعادة أميركا لقدراتها الصناعية والمالية، واسترجاعها لقدراتها التصديرية، ولكن ربما كانت أعظم إنجازاتها جرت في مجال الطاقة حيث عادت أميركا مرة أخرى لكي تكون دولة مصدرة للنفط، الأمر الذي أدى إلى الانهيار الكبير في أسعاره. وربما كان من حسن حظ أوباما أن خطابه جاء في الوقت الذي لم يكن فيه حظ القوى العالمية الأخرى على الدرجة نفسها من التفاؤل؛ فالاقتصاد الروسي يمر بأزمة منتجي النفط، والاقتصاد الصيني يمر بمرحلة ارتباك غير معهودة، والاقتصاد الأوروبي لم يتعافَ بعد، واقتصادات الدول الصاعدة ليست بمثل العنفوان الذي كانت عليه منذ سنوات. بشكل ما قلَب أوباما في خطابه ما كان علامات على الضعف والتهافت إلى عناوين للقوة والعنفوان؛ فالخروج الأميركي المهين من العراق وأفغانستان، والخسارة الفادحة التي تعدت تريليونات من الدولارات في حروب «غبية»، كانت أشبه بالانتصارات عندما تحول ما كان مفقودًا من موارد إلى قلب الاقتصاد الأميركي ممولاً للرعاية الصحية الشاملة، ومساعدًا على تعليم الطلاب، وفوق ذلك كله إعطاء دفعات إضافية لأعظم المواهب الأميركية في الاختراع والبحث والتطوير.


باختصار، فإن ولاية أوباما كما هي في اعتقاده العهد الذي استعادت فيه «القوة الناعمة» و«القوة الذكية» فاعليتها في السياسة الأميركية لكي تتناسب مع التطورات التكنولوجية والجيلية التي جرت في العقدين الأولين من القرن الواحد والعشرين. لم تعد المسألة التقليل من استخدام مصادر الطاقة الأحفورية، أو الدفع في اتجاه توليد مصادر الطاقة المتجددة خاصة الشمسية، وإنما أصبحت تجميع عناصر القوة العلمية والتكنولوجية الأميركية لكي تحقق أهدافًا عظمى جديدة مثل التخلص من مرض السرطان، والقضاء على أمراض الملاريا والسكر والإيدز، والدفاع ضد الأوبئة مثل الإيبولا. لم يستبعد أوباما بصفة نهائية استخدام القوة العسكرية، فهو يراها محتمة في عملية القضاء على «داعش»؛ ولكنه لا يستخدمها دون الاستفادة من دروس فيتنام وحروب العراق وأفغانستان. المقومات الرئيسية للإرهاب وحروب العصابات تقوم على «الصبر» والزمن والإنهاك المستمر، وفي الوقت نفسه، تكبير الحجم من خلال مناطحة الكبار من دول وتحالفات. الفوز هنا والنصر يكون مؤكدًا عندما تنجح الدول أو التحالفات المناوئة للإرهاب في كسب معركة «الصبر» و«الزمن» هذه؛ والأهم وضع العدو الإرهابي عند أحجامه الطبيعية كجماعات من المجرمين. ولذلك رفض أوباما وصف الحرب الحالية بين «داعش» وكثير من الدول على أنها الحرب العالمية الثالثة لأن مثل هذا الوصف يكبر ويعظم من قامتها.


هذه النقطة على جدارتها في بعض جوانبها على الأقل، تجاهلت حقائق الشمول العالمي لظاهرة الإرهاب، وذلك التماس ما بين اتجاهات «الفاشية الدينية»، والآيديولوجيات الفاشية والنازية التي ولدت الحرب العالمية الثانية، وأخيرًا ما تسببه من دمار وقتلى ونازحين ولاجئين عبر قارات مختلفة. عالمية العدو هنا، وما يشنه من حروب تقوم على القسوة والبربرية، كانت تحتاج ردًا عالميًا لأن سرعة الانتقال من مسرح عمليات إلى آخر، وتوجيه الضربات لأهداف «ناعمة» في مساحة ممتدة من جاكرتا إلى كاليفورنيا يجعل فكرة العالمية مشروعة تمامًا. ولكن هذه ليست وجهة نظر أوباما في عامه الأخير على أية حال؛ ومن الممكن أن يكون ما ذكره رسالة سياسية لكل من يهمه الأمر عن الحدود التي يمكن أن تذهب لها& الولايات المتحدة في المعارك القادمة ضد «داعش» في الموصل العراقية والرقة السورية وسرت الليبية.


خطاب الاتحاد لم يخلُ من مراجعة مهمة، فيها ظهور للتواضع من ناحية، وربما دروس لمن سوف يأتي من بعده. نوع من النقد الذاتي جاء مع اعتراف أوباما أن عهده شهد أكبر انقسام واستقطاب في الساحة السياسية الأميركية منذ وقت طويل، خاصة بين الجمهوريين والديمقراطيين. قال أوباما إنه ربما لو كان إبراهام لينكولن أو فرانكلين روزفلت هم قادة الولايات المتحدة، لكانت النتيجة مختلفة ولم يحدث الصدام الذي كاد يؤدي إلى شلل الإدارة الأميركية عن العمل نتيجة النزاع حول الميزانية بين البيت الأبيض الديمقراطي من ناحية، والكونغرس صاحب الأغلبية الجمهورية من ناحية أخرى. لم تكن إدارة أوباما إذن نقية ناصعة كما كان يتمنى، ولكن الرجل بذل ما يستطيع من جهد، وبقي على المتنافسين على الرئاسة الآن أن يتعلموا. المدهش أن كل ذلك يحدث ولا تزال الإدارة قائمة، وأمامها عام كامل من السلطة لن يتوقف فيه العالم، ولا الولايات المتحدة عن الدوران. ولكن أوباما أيضًا يعلم أنه مع بدء الانتخابات التمهيدية للحزبين الجمهوري والديمقراطي، فإن أضواء المسرح على البيت الأبيض سوف تأخذ في الخفوت، لكي تلمع في مناطق أخرى تجذب أنظار النظارة الأميركيين في المعركة الرئاسية الأميركية.


وهكذا، لن يكون هناك خطاب اتحاد آخر لأوباما، ولكنه ربما لن يحتاج إلى مثل هذا الخطاب، فسوف تكون هناك مذكراته ومذكرات كل من حوله، وتبدأ عجلة التاريخ في الدوران لكي تحكم له أو عليه.
&