عبد الوهاب بدرخان

في النهاية استطاعت موجات الهجرة الممتزجة بالإرهاب، أو بالخوف منه، أن تضرب واحداً من أهم إنجازات أوروبا على طرق وحدتها، إذ أعادت شيئاً فشيئاً إقفال الحدود فيما بينها، وأصبح «اتفاق شينجن» مترنّحاً في أسوأ التوصيفات، أو بحاجة إلى تعديل في أفضلها. وتنكبّ العواصم جميعاً على حزمة تشريعات جديدة أو قديمة يجري تشديدها للتعامل مع مخاطر الواقع الذي لا يوفّر أي مؤشرات مطمئنة بل لا ينفكّ يلوّح بتهديدات، لكن الحكومات، رغم كل ما تتخذه من إجراءات، لا تبدو مقتنعة بأنها ضيّقت هامش الخطر، وتبقى على خشيتها من المفاجآت، وهذه قد لا تكون فقط أمنية - دموية، بل يمكن أن تكون اجتماعية.

ذاك أن بيئات عديدة، في ألمانيا والنمسا وبريطانيا وغيرها، وجدت نفسها بلا مقدمات مع جيران جدد غير متوقعين أو «دخلاء» غير مرغوب فيهم. صحيح أن المحنة السورية، وقبلها العراقية، وبعدها الليبية، احتلّت عناوين الأخبار وطبعت صوراً للفظائع اللاإنسانية في الأذهان، ونسجت بالتالي تعاطفاً متفاوتاً مع هؤلاء وأولئك، إلا أن التفرّج على الضحايا على الشاشات شيء واستحضارهم اعتباطاً وقسراً إلى الجيرة شيء آخر، خصوصاً أن هناك خلفية تراكمت على مرّ الأعوام لصورة «الثنائي» - المهاجر/ الإرهابي - المتماهي أو المؤهّل للتماهي. ويسري ذلك على الجدد إمّا بالاندساس بين الهاربين من الموت أو بتزوير محتمل للوثائق، كما يشمل القدامى أو الذين لم تشِ سيرتهم بأن يكونوا أفراداً في خلايا نائمة. لذلك لا ينسى الألمان مَن مرّوا ببلادهم على الطريق إلى هجمات 11 سبتمبر 2001 في نيويورك وسواها، ولا الإسبان تفجير القطارات في مدريد (2004)، ولا البريطانيون عمليات 7 يوليو 2005، كما لن ينسى الفرنسيون هجمات 13 نوفمبر وقبلها مقتلة «شارلي إيبدو» في يناير 2015، وبالطبع لا تزال أيام الحذر وتعطيل المؤسسات في ذاكرة البلجيكيين.

&


صحيح أن الحياة تبدو عادية في عواصم هذه البلدان، رغم حال الطوارئ، أو ما يشبهها، التي تعيشها، إلا أنها تشعر بدخولها مرحلة جديدة غير مسبوقة مع وجود مئات الآلاف من القادمين إليها بظروف هجرة غير عادية.

عملياً، مرّ «استقبال» اللاجئين بانفعالات سلبية أقل مما كان متوقعاً، بالمقارنة من النقاش الصاخب المتواصل حول الهجرة وتقنينها أو وضع حدٍّ لها، فكل الحكومات الأوروبية تعاني من يمينها المتطرّف الذي ذهب إلى أقصى استغلال لقضية المهاجرين، كان يمكن المرء أن يتخيّل المستشارة الألمانية ممانعةً دخول مسلمين جدد فيما تتظاهر منظمة «بيجيدا» ضدّهم، وكان يمكن تفهّم رئيس الوزراء البريطاني أو أي مسؤول أوروبي آخر لو رفض قبول لاجئين، لا لشيئ إلا لأنه تعهّد في آخر انتخابات بالتشدّد مع هذه الظاهرة. ولعلهم تمنوا جميعاً لو كانوا كالرئيسين الممانعين الهنغاري والتشيكي، إلا أن ظروفهم الدولية والأخلاقية لم تسعفهم.

لكن المفاجأة جاءت من حيث لم يتوقّعها أحد، من مدينة كولوني الألمانية، حيث تعرضت مئات النساء ليلة رأس السنة لتحرشات جماعية وفردية، ووجّهت الاتهامات إلى مهاجرين أو لاجئين، وحتى الآن لم تتضح طبيعة الأحداث إلا أن الراسخ في العقول أن ثمة جرائم حصلت على خلفية «تفاوت (أو تصادم) ثقافات». بدأ الأمر أشبه بكابوس أو بصدمة صاعقة، ولم يفوت الإعلام المتطرف الفرصة للحديث عن «وجه آخر للإرهاب» ظهر في تلك الليلة وخلّف قلقاً وذهولاً في كل أوساط المجتمع، بل عن «رجال يعيشون بيننا، رجال معادين للسامية، ويحتقرون المثليين والنساء» و«يتحدّرون من ثقافات أخرى».. وما لبثت الصدمة أن استشعرت في مختلف أنحاء أوروبا بخليط من الحقائق والشائعات والاختلاقات.

لم يأت اقتراح رئيس الوزراء البريطاني تخصيص عشرين مليون إسترليني لبرنامج لتعليم اللغة الإنجليزية للنساء المسلمات المهاجرات على خلفية تلك الأحداث، لكنه لمّح إليه في مقاله في «التايمز».

ومن الواضح أن مشروعه يلبّي توصية من دراسات ترصد أسباب التطرّف وتطمح إلى دفع المرأة نحو دور أكثر تأثيراً في الأسرة، سواء بتمكينها من العمل أو من الاندماج، وبالتالي اندماج أبنائها.

هنا يبرز أيضاً القلق من «الثقافات الأخرى» وضرورة ردم الهوّة بينها وبين القيم المحلية، وليس في ذلك اكتشاف جديد لكن خطر التطرّف لفت إلى حلقة مفقودة في عملية استيعاب أكثر فاعلية للمهاجرين، أما الجديد فهو أن قوننة «مكافحة الإرهاب» باتت ترسم خريطة طريق للمهاجرين كي يندمجوا أو يرحّلوا.
&