محمد العسومي
مع انهيار أسعار النفط كثرت القراءات والفتاوى من المتخصصين وغيرهم، بعضها مهني راق، أما بعضها فسطحي ومتسرع، إلا أن هناك أسباب وحقائق موضوعية، جانب منها آني وآخر بعيد المدى، إذ لا يمكن النظر إلى التطورات السريعة في سوق النفط العالمي من طرف واحد، خصوصاً أن العوامل الجيوسياسية دخلت بقوة هذه المرة في عالم النفط لتؤثر بشدة في التطورات الجارية.
لابد من الإشارة بداية إلى أن الطلب العالمي على النفط يبلغ 98 مليون برميل يومياً، وهو يزداد بمقدار 1.5 مليون برميل سنوياً على أقل تقدير، يقابله عرض يبلغ 101 مليون برميل يومياً، مما يعني أن هناك خللاً بين العرض والطلب، وإذا كانت الأسعار قد بلغت مستويات قياسية في منتصف عام 2014، رغم توازن العرض والطلب، مما لا يبرر الارتفاع الكبير في الأسعار في ذلك الوقت، فإن الفائض المقدر بثلاثة ملايين برميل لا يبرر أيضاً الانهيار الحالي في الأسعار.
ما يحدث في الوقت الحاضر سيتم تجاوزه على المدى المتوسط وستستقر الأسعار عند مستويات معقولة ومقبولة للمنتجين والمستهلكين، إلا أن ما يجب النظر إليه هو النهج الاستراتيجي المستقبلي وإمكانية تطوير مصادر الطاقة البديلة والتحضير لاقتصادات دون نفط، وبما أن الأنظار تتجه إلى آسيا، وتحديداً الصين والهند، فإن هاتين الدولتين المستوردتين لمعظم النفط الخليجي لديهما برامج متكاملة للابتعاد عن النفط والغاز تدريجياً. فالصين مثلاً ستستثمر 143 مليار دولار حتى عام 2020 في تنمية مصادر الطاقة البديلة، وهو مبلغ كبير سيشكل نقلة نوعية في صناعة الطاقة الصينية في السنوات الأربع القادمة.
وعلى هذا المنوال تسير العديد من البلدان الكبيرة المستهلكة للنفط، لاسيما أن تكاليف إنتاج الطاقة البديلة تنخفض باستمرار بعد دخول الصين بقوة في صناعة الألواح الشمسية، لذلك فالأمر هنا لا يتعلق بقدرة هذه الدولة، أو تلك على إنتاج النفط لمائة عام بفضل احتياطياتها الضخمة، وإنما بمدى حاجة العالم للنفط المنتج.
هذه هي المعادلة التي يجب أن تحدد مستقبل السياسات الاقتصادية لمختلف بلدان العالم، بما فيها تلك المنتجة للنفط، فالمغرب مثلاً يمكن أن يكتفي قريباً بالطاقة الشمسية لإنتاج الكهرباء، بل يتوقع أن يصبح مصدِّراً للطاقة الشمسية نحو أوروبا، وهو تحول متوقع خلال العقد القادم. هذا التحول ستترتب عليه نتائج جيوسياسية خطيرة، حيث يمكن ملاحظة بوادر مثل هذا التحول حالياً، فالتحالفات تنتقل ويحدث اصطفاف جديد للقوى بين حلفاء وخصوم الأمس، مما يعكس الدور المحوري للمصالح في تحديد الأصدقاء والأعداء.
ومع ذلك، فسيبقى النفط سيد الموقف في ميزان الطاقة العالمي للعقود الثلاثة القادمة، إذ لا يمكن إعطاء تصورات تتجاوز هذه الفترة الزمنية، فالتطورات سريعة ومتلاحقة، إلا أنه يمكن الجزم بأن العالم لا يمكنه الاستغناء عن مائة مليون برميل يومياً دفعة واحدة أو على مدى زمني قصير، فالأمر بحاجة إلى وقت بعيد المدى.
لذلك على الذين شمتوا فينا بسبب انهيار أسعار النفط وما تلاه من اتخاذ دول الخليج إجراءات مالية تصحيحية، أن يطووا شماتتهم، خاصة أن الإجراءات المتخذة، سواء بإلغاء الدعم على المحروقات أو سن رسوم وضرائب جديدة، هي إجراءات إيجابية من الناحية الاقتصادية المهنية، وقد دعت إليها منظمات دولية منذ سنوات، بما فيها صندوق النقد والبنك الدوليان، وستكون لها تداعيات إيجابية على الاقتصادات الخليجية مستقبلاً، إذ سنكون بدورنا قد ابتعدنا عن النفط نحو التنوع في ذلك الوقت.
لكن هناك خطوات وإجراءات أخرى مهمة يتعين اتخاذها ضمن نهج جديد للإدارة الاقتصادية في دول الخليج، يأخذ بعين الاعتبار مجمل التطورات التي أشرنا إليها هنا، وهذه مسألة أخرى لا يتسع المجال لتفصيلها في هذا المقام.
&
التعليقات