&حازم صاغية

بتنا نملك ما يكفي من دراسات وكتابات ترصد السياسات الانتخابية في الولايات المتحدة، وظاهرة المرشح دونالد ترامب، للقول بأن الأخير «بطل الفقراء البيض»، ولاسيما منهم الطبقة العاملة. ذاك أن هذه الأخيرة تشكل القاعدة الأمتن والأعرض التي نهض عليها ترامب والترامبية وبعض ما يُعرف بـ«اليمين البديل».

وهنا لابد من ملاحظة شيء مماثل حصل أولاً في فرنسا، حين انزاحت قطاعات عريضة من الطبقة العاملة الفرنسية في ضواحي باريس وبعض المدن عن تأييد الحزب الشيوعي إلى تأييد «الجبهة الوطنية» العنصرية بزعامة جان ماري لوبن ومن بعده ابنته مارين. بعد ذاك جاء التصويت البريطاني على الخروج من الاتحاد الأوروبي «بريكسيت» ليسجل كيف أن الطبقة العاملة في وسط إنجلترا «ميدلاندز» وعاصمته برمنغهام، وكذلك في الشمال حيث مدينتا ليفربول ومانشستر، هي من أشد المتحمسين لمغادرة الاتحاد. وفوق هذا، تبين أن أوساطاً واسعة في هذه البيئة تحولت تباعاً من تأييد حزب العمال إلى مبايعة «حزب استقلال المملكة المتحدة» المناهض للأجانب.

لكنْ ما هي أبرز الملامح التي تتسم بها هذه الفئة الداعمة لترامب في الولايات المتحدة، والتي يصح الكثير منها على مماثلاتها في فرنسا وبريطانيا وبلدان أخرى؟

هناك، أولاً، انهيار الصناعات القديمة، خصوصاً منها الفحم، التي اعتمدت عليها معيشة الملايين من سكان تلك المناطق. ولقد تأدى الانهيار هذا عن عدد من العناصر والتطورات بينها الثورة المعلوماتية والعولمية، والاتفاقات التجارية العابرة للدول، وترحيل بعض وحدات الإنتاج إلى الخارج حيث تنخفض الأجور عنها في الولايات المتحدة. وهذا معطوفاً على نحو دائم على ضعف الإعداد التعليمي الذي يؤهل أصحابه للانخراط في الاقتصادات الجديدة.

وإذ مضت التقديمات الاجتماعية للدولة في الانكماش منذ عهدي رونالد ريجان في الثمانينيات، جاءت أزمة 2008 المالية لتوجه ضربة أخرى لهذه البيئة التي تراجعت فرص العمل المتاحة لها، كما زادت مطالبتها بالتقشف من جهة أخرى، وهذا مع العلم أنّ المصارف هي التي تسببت بالأزمة التي لم يكتمل حتى اللحظة التعافي منها.

فوق ذلك أحست تلك البيئة نفسها أنها هي التي تقدم القتلى والجرحى والمعوقين في حروب الولايات المتحدة في العراق وأفغانستان. ومع هذا، فإن الذين يعودون من هؤلاء لن يعثروا على الخدمات الطبية والرعائية المطلوبة.

وبنتيجة تلك العناصر مجتمعة، بدأت تسود قناعة مفادها أن «النخبة» بشقيها الحزبيين الجمهوري والديمقراطي، وبأجنحتها السياسية والاقتصادية والإعلامية، غير معنية بآلامها وهمومها، وأنها منشغلة فحسب في مراكمة أموالها في مدن الشمال الشرقي كنيويورك و«واشنطن دي سي» أو على الساحل الغربي من سياتل شمالاً إلى كاليفورنيا جنوباً.

وغني عن القول إن عوامل ثقافية أسهمت إلى حد بعيد في إحداث هذه التحولات، يتصدرها الشعور بانهيار العالم القديم للبيض الأميركيين، وتراجع نسبتهم العددية مقابل التزايد الذي تشهده أعداد اللاتين المكسيكيين والأفرو-أميركيين السود. وكان لهذه التعددية المتعاظمة إثنياً وثقافياً أن أثمرت، في 2008، نتيجتها السياسية ممثلةً بانتخاب باراك حسين أوباما، الأسود ونصف المسلم، لرئاسة الجمهورية.

وهذا التذمر المتعدد المصادر هو ما يجد صوته في دونالد ترامب، الآتي من خارج النخبة التقليدية، والذي يضلل البؤساء البيض بحلول خلاصية وهمية، بعد تضليلهم بوصف وهمي للمشكلات التي يعانونها. بيد أن الشبه المزعوم معهم إنما يهندسه ذاك الملياردير المهرّج بقدر مدهش من الأكاذيب وقلب الحقائق رأساً على عقب.

وهذه ليست أولى التجارب التي تؤكد أن الضحايا يمكن أن ينحازوا إلى الخيار الخاطئ، فلا ينجم عن عملهم إلا الإمعان في تمكين الجلاد وتعزيز قبضته.